الصين قيادة تنهض بأمة طموحها بلا حدود – رشاد أبو شاور
حالياً، تخوض الصين معركة لتصفية الفقر نهائياً، وها هي تقترب من تحقيق هذا الإنجاز في عموم البلاد.
في مثل هذه الأيام من العام 1971، كنت في الصين، وتجولت في عدّة مدن صينية عريقة، ولم أكن وحدي.
اتصل بي صديقي الصحافي حنا مقبل عندما كنّا في دمشق، وسألني باقتضاب:
- رشاد، هل تحب أن تسافر إلى الصين؟
وجمت للحظة، ثم رددت بلهفة: آ.. أحب.
عاد وسألني:
- هل لديك جواز سفر؟
ترددت، ثم أجبته:
- نعم.
قال لي:
- السفر بعد غد.
لم تكن لديَّ حقيبة، ولا ملابس، ولا أعرف شيئاً عن مخطط السفر، ولا أدري مع من سأسافر. استعرت حقيبة تتسع لـ”غيارَين”، وتم تدبير أمر الجواز. أمّا احتياجاتي للرحلة، فقد صرف لي مسؤول المالية 300 ليرة سورية لتغطيتها، وطلب مني أن أُحضر إيصالات بالمصاريف!
كنت قد قرأت كتاب الزعيم الصيني ماوتسي تونغ عن حرب العصابات، وكتاب الصحافي الأميركي إدغار سنو المعنون “النجم الأحمر فوق الصين”، وكنت أعرف شيئاً عن الخلاف السوفياتي الصيني، وكنت منحازاً إلى الصين. ولعلّ السبب الرئيس يكمن في أن الصين لا تعترف بالكيان الصهيوني، وتدعم ثورة الشعب الفلسطيني، وتستقبل القيادات الفدائية، وتقدم بعض الأسلحة، وتنظم دورات للفدائيين، وكان هذا يكفي لنحبّها ونمنحها تأييدنا.
اتجهت إلى مطار دمشق. وهناك التقيت بعض الإخوة، فانضممت إليهم، ومضت بنا طائرة “دي سي سكس” إلى القاهرة. استغرقت الرحلة قرابة 3 ساعات. في اليوم التالي، غادرنا القاهرة إلى كراتشي في باكستان، وكان على طائرة أميركية أن تحملنا إلى هونغ كونغ، فرفض قبطانها صعودنا، وأبقانا ما لا يقل عن ساعتين تقريباً، في ما كان مدير المطار الباكستاني يوضح له أن لنا حجزاً في الرحلة، ولن يسمح له بالإقلاع حتى يصطحبنا معه، وهو ما تم أخيراً، فقد انصاع القبطان الأميركي، ومضت بنا الطائرة إلى هونغ كونغ.
بعد وصولنا، مضينا إلى فندق في المدينة، وجلسنا معاً وتعارفنا: صحافي مغربي قادم من باريس، صحافي تونسي قادم من تونس، صحافي كويتي، صحافي سوري، صحافي مصري قادم من القاهرة، وهو مراسل عالمي لجريدة “الأهرام”، والصحافي علي بلوط من لبنان، وأنا، ورئيس إقليم “فتح” في سوريا أبو عمّار سعد.
في اليوم التالي، كان علينا عبور الحدود بين هونغ كونغ وكانتون الصينية. خُتمت جوازات الجميع باستثنائي، فقلقت، ولكن فتاة صينية أمسكت بيدي، واقتادني إلى ممر الخروج. وبعد قليل، أحضرت جوازي، وضغطت على يدي بيدها الصغيرة، ففهمت أن الصين حاضرة بنفوذها في (المستعمرة البريطانية) الصينية هونغ كونغ.
كان هناك جندي بريطاني يتثاءب بكسل مستنداً إلى جدار قبالة تلة يرتفع عليها علم بريطاني لا يرفرف، فتنبّهت إلى المشهد، وعلّقت: نهاية أيام الإمبراطورية البريطانية… وتوالت التعليقات.
وصلنا إلى كانتون بالقطار، واستُقبلنا بحفاوة، وبدأنا نرى الزي الصيني الموحد: بدلة سفاري رمادية يرتديها جميع الصينيين رجالاً ونساءً.
سألنا: كم ساعة تستغرق الرحلة إلى بكين بالطائرة؟ فأخبرنا مضيفونا: 4 ساعات في طائرة صغيرة، ولكن لا تقلقوا. لا تقع حوادث عندنا في الصين، لأننا نتابع تحولات الطقس، ونحتاط جيداً قبل أن تقلع طائراتنا.
استُضفنا في فندق الشعب المجاور لساحة تيان آن مين. وهناك، وقفت أتابع، وكذا الزملاء، تدفق نهر الصينيين عبر دراجاتهم ببدلاتهم الرمادية، منبهراً بانسيابيتهم وانضباطهم في توجّههم إلى العمل.
قلّة السيارات لفتت انتباهنا. عرفنا أنّ الصينيين جعلوا الدراجات وسيلة مواصلات غير مكلفة، وهو ما يغنيهم عن فقرهم بالنفط الذي يدخرونه، وهكذا يحتفظون بالعملة الصعبة.
تمّ إعلامنا بأنَّ لقاءنا مع رئيس الوزراء الصيني سيكون في اليوم الذي يلي وصولنا. تم اصطحابنا. وهناك، كان رئيس الوزراء يقف أمام الباب، وأخذ يصافحنا واحداً واحداً. وعندما وصل الدور إليّ، شبك يده بيدي، وواصل السلام، وكان أن احتفى بأبي خالد سفير فلسطين السابق، والذي رأيناه فجأة أثناء قدومنا إلى اللقاء.
بقي رئيس الوزراء ممسكاً بيدي، وأجلسني إلى جواره تماماً، فعرفت أنَّ حرصه يعود إلى أنني الصحافي الفلسطيني الوحيد… بدأ شو أن بتحميل الصحافي التونسي عبد الجليل دمّق تحيات إلى الرئيس الجليل الحبيب بورقيبة، وطلب منه أن يطمئنه إلى صحته. وفي اليوم التالي، أعادت تونس علاقاتها مع الصين!
وقد وجه كلامه إلينا جميعاً: اتحدوا أنتم العرب، فإذا اتحدتم، سنمسك بالعالم هكذا.. وصنع بالسبابة والشاهد في يده اليمنى نصف دائرة، وبالسبابة والشاهد في يده اليسرى نصف دائرة، وضمّ أصابعه في دائرة، وأخذ يهزها، وهو يردد: أنتم العرب، إذا اتحدتم، فنحن وأنتم، سنمسك بالعالم هكذا هكذا هكذا.. ولكن العرب لم يتحدوا، بل ازدادت دولهم في “جامعة الدول العربية”، ونفذوا خطّة تشرشل الذي قال: سأضع علماً لكل دولة عند كل بئر بترول… وهذا ما كان، فتزايدت الدول. وبدلاً من 7 دول، صار لدينا 22 دولة!
كان سؤالي الوحيد في اللقاء عن الثورة الثقافية. تشعبت الأسئلة، وظللت أسجل الأسئلة والأجوبة قرابة 3 ساعات. عندما فرغنا من الأسئلة، انتقل رئيس الوزراء شو أن لاي للإجابة عن أسئلة افتراضية: إلى أي مدن ستتوجهون؟ ماذا ستشاهدون هناك؟ عرفنا أنه يحفظ كل العروض المسرحية والفنية في كل المدن. وقد وجه إلينا النصح بأن نشاهد العروض الأكثر أهمية في كل المدن التي سنزورها، ومنها مشاهدة مسرح الجيش الكوميدي، وابتسم وأخبرنا: رغم عدم معرفتكم باللغة الصينية، فستضحكون كثيراً، وستستمتعون بما ستشاهدونه.
شرح لنا في ذلك اللقاء الفرق بين الأوبرا الصينية والأبرا الأوروبية، ونصحنا بأن نشاهد أوبرا “الاستيلاء على جبل النمر بدهاء” في بكين، وأخبرنا أن الأميرة الإيرانية، شقيقة الشاه، ستحضر العرض معنا…
بعد أن عدت إلى دمشق، وكنت قد دونت كل شيء؛ الانطباعات والحوارات والأحاديث في اللقاءات، شرعت في النشر. أول ما نشرته كان اللقاء مع شو أن لاي في مجلة “إلى الأمام”، وكان رئيس تحريرها الزميل فضل شرورو، ثم توالى نشر كتاباتي حول زيارة الصين.
عندما أعود بالذاكرة إلى صين ذلك الزمن، أجدني مقتنعاً بأن الصين عملت ليلاً نهاراً لتتطوّر صناعياً وزراعياً وتقنياً، ووضعت قيادتها في مقدمة اهتماماتها توحيد كلّ “أجزاء” الصين، لأنها تريد لكل الصيينيين أن يكونوا في دولة أمتهم الواحدة…
ولهذا، إنَّ الصين معنية باستعادة ما تُسمى بجمهورية الصين الوطنية التي أسَّسها الجنرال تشاي كاي تشك بعد هزيمته في الحرب الأهلية التي خاضها في مواجهة الحزب الشيوعي الصيني.
في مذكّراته، كتب الأديب المثقف الشيوعي نجاتي صدقي عن واقعة حدثت معه عندما كان يدرس في المدرسة الحزبية في الاتحاد السوفياتي، وكان معه خالد بكداش و.. ماوتسي تونغ. احتدم النقاش بين نجاتي صدقي وبكداش، فصدقي يرى أن القومية العربية تقدمية، وبكداش يتهمها بالعنصرية والرجعية! كان ماوتسي تونغ يصغي. وعندما سأله بكداش عن رأيه، أجابه: “حركة القومية العربية تقدمية، ورأيك خطأ يا رفيق!”.
هنا، نرى جذور أخطاء الأحزاب الشيوعية العربية، والتي تعود إلى تحكُّم بعض قياداتها النافذة، وهي من غير العرب!
عندما زرت الصين، رأيتهم يزرعون سفوح الجبال، ويرتدون الزي نفسه، ويقتدون بقيادة متواضعة صلبة تعيش مثلهم، ويتطلعون إلى صين عظيمة تضيف إلى أمجاد أمة عريقة…
حالياً، تخوض الصين معركة تصفية الفقر نهائياً، وها هي تقترب من تحقيق هذا الإنجاز في عموم الصين.
في بلادنا، يهرب المواطنون إلى البحر، ويغامرون بحياتهم، ويغرقون مع أطفالهم. هذا ما حدث قبل أيام قرب ميناء طرابلس شمالي لبنان. لقد ماتوا وهم يهربون من وطنهم الذي يحبونه، ولكنهم لا يحبون العيش فيه، لأنهم لا يجدون الطعام واللباس والتعليم والمستقبل لأطفالهم!
الأمة تنهب ثرواتها، ويضيع حاضرها ومستقبلها، وتستتبع دولها أميركياً، وتتلطى دولها بالكيان الصهيوني. يا له من واقع بائس مُخز!
لولا المقاومة لكفرنا، لكننا مؤمنون بعظمة أمتنا، وبحتمية نهوضها، وستنهض. نعم، ستنهض.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.