استقلال الجزائر.. من عقدة فرنسا إلى عقدة “إسرائيل” – حنان صندوق
الجزائر نالت استقلالها بعد مقاومة شعبها للاحتلال الفرنسي طويلاً، واليوم تؤدي دوراً هاماً في الحفاظ على منجزات الاستقلال من دون أن تنسى القضية الفلسطينية.
تقيم السلطات الجزائرية احتفالات ضخمة في الذكرى الـ 60 لاستقلالها. الاحتفالات هذا العام يتخللها استعراضٌ عسكريٌ كبير في العاصمة الجزائر، هو الأول منذ 33 عاماً، فكيف كان استقلالها وهي البلد الذي يُعرف ببلد المليون شهيد؟
استقلالٌ بالدم والتضحيات
لم تحصل الجزائر على استقلالها بالمساومات أو التسويات التي ساعدتها الظروف الدولية، فلم يترك الجزائريون فرصةً واحدةً إلا ودافعوا بها عن بلادهم، وهذا ما يُؤمن به كل جزائري ضحى بنفسه فداءً لوطنه.
تاريخ الجزائر حافلٌ بالنضالات التي لا تُنسى، فتضحيات شعبها لم تتوقف أبداً خلال الاستعمار الفرنسي، وعلى الرغم من أنّ الثورة الجزائرية أفرزت آلاف اليتامى والأرامل والشهداء، لكن هذا لم يكن إلا حافزاً للتضحية المستمرة من أجل الخروج من سيطرة الاستعمار.
استطاعت الجزائر انتزاع استقلالها بعد نحو 132 عاماً من الاحتلال الفرنسي، و7 سنوات ونصف من حرب استقلال دامية خلّفت مئات الآلاف من القتلى، ما جعلها المستعمرة الفرنسية الأولى في أفريقيا التي تتحرّر بقوة السلاح.
طرد الجزائريون الاحتلال الفرنسي بعد أنّ نفّذوا عمليات مقاومة كثيرة بدأت مع الأمير عبد القادر الجزائري، وصولاً إلى جبهة التحرير الجزائرية، التي شنّت حرب استقلال استمرت من العام 1954 وحتى العام 1962.
وتوقّف القتال بعد توقيع اتفاقيات “إيفيان” التاريخية، التي مهدت الطريق لإعلان استقلال الجزائر في 5 تموز/يوليو من العام 1962، نتيجة موافقة الجزائريين باستفتاء لتقرير المصير على الاستقلال، بنسبة 99.72%، ما أنهى أكثر من قرن من الاستعمار. ومن الجدير بالذكر أن الجزائر لم تقبل باعتماد يوم الإعلان الفرنسي للاستقلال، وإنما اختارت يوم استقلالها بنفسها، الخامس من تموز، في اليوم نفسه الذي سقطت الجزائر بيد الاستعمار، عام 1830م.
المبادرات الرمزية التي تقوم بها فرنسا في محاولة “لتنقية الذاكرة”، والتي لم تصل إلى حدّ تقديم “الاعتذار”، ومنها اعتبار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ الاستعمار “جريمة ضد الإنسانية”، لم تمحُ ندوب الجزائريين، فذكرى الاستعمار الفرنسي للجزائر ما زالت توتّر العلاقات مع باريس، فالموقف الجزائري واضح من فرنسا: “مستعدون لعلاقات طبيعية وودية مع فرنسا، ولكن على 3 أسس: الاعتراف والاعتذار والتعويض”.
إرث الاستعمار ظلّ ثقيلاً
بعد خروج فرنسا من الجزائر، ورثت الدولة الجزائرية الفتيّة معضلات أثرت في مسار بناء الدولة الجزائرية وأدائها السياسي والاقتصادي، إذ تركت فرنسا الخزينة الجزائرية خالية بعد أن سلبت كل ما فيها، وسحبت معها كل الودائع والأموال والسيولة الموجودة في البنوك. وأخذت معها كذلك، الوثائق المدنية وسجلات الملكية، وراهنت على أن تدب الفوضى في المجتمع حال مغادرتها بسبب غياب هذه الوثائق.
وتعاقب 10 رؤساء على حكم الجزائر بعد استقلال البلاد، وكان لكل منهم بصمته في المسار السياسي الحديث للبلاد، كان آخرهم عبد المجيد تبون، الذي تمكن من الفوز بكرسي الرئاسة الجزائرية في ظلّ احتجاجاتٍ غير مسبوقة شهدتها البلاد.
ومرّ تاريخ الجزائر منذ استقلالها بالعديد من المحطات الرئيسة، أبرزها:
تعيين أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال في أيلول/سبتمبر 1963، واعتماد ميثاق الجزائر والتأكيد على اشتراكية البلاد عام 1964. في 19 حزيران/يونيو 1965، أُطيح الرئيس بن بلة خلال انقلابٍ قاده وزير الدفاع في حكومته العقيد هواري بومدين، الذي تولى رئاسة المجلس الثوري والحكومة بعد اعتماد الميثاق الوطني، وبعد وفاة بومدين عام 1978، خلفه العقيد الشاذلي بن جديد الذي اختاره الجيش لرئاسة البلاد.
وفي شباط/فبراير 1989، وُضِع دستور جديد وأُنشئ نظام متعدد الأحزاب، ثم أُعلنت حالة الطوارئ في العام 1991، بعد مواجهات قوية بين قوات الأمن و الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وجرى في حزيران/يونيو 1992 اغتيال محمد بو ضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة.
وأسفرت موجة العنف في الجزائر (1992-2002) عن مقتل 200 ألف شخص، وفق الأرقام الرسمية، بينهم عددٌ كبيرٌ من المدنيين سقطوا ضحية هجمات أو مجازر نُسبت في معظمها الى مجموعات متشددة.
وانتُخب عبد العزيز بوتفليقة رئيساً بدعم من الجيش، في نيسان/أبريل 1999، وبدأ العمل على إعادة السلام إلى البلاد. وألقى العديد من الذين حملوا السلاح أسلحتهم بموجب قانونين للعفو.
لم يمر شهران على الاحتجاجات الشعبية ضد عبد العزيز بوتفليقة بعد اتضاح نيته الترشح لولاية خامسة حتى تنحى تحت ضغط الشارع في نيسان/أبريل 2019. وفي 12 كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، فاز عبد المجيد تبون بالرئاسة.
الجزائر.. “عقدة شارون”
“الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، لم يكن شعاراً أطلقه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، بل شعوراً تجسد في وجدان الجزائريين. وهذا ما يعبّر عن المسؤولية الجزائرية الكبيرة وموقفها التاريخي المشرّف من القضية الفلسطينية.
ورغم البعد الجغرافي، فإنّ العلاقة التاريخية ظلت متوهجة بالمواقف التي اتخذتها الجزائر من أجل فلسطين، فيما عدّ الفلسطينيون الثورة الجزائرية أعظم ثورة عربية يُقتدى بها في الصراع مع العدو الإسرائيلي.
كانت الجزائر من أولى الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأسهم الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة في دعم الثورة الفلسطينية، وافتتاح أول مكتب لحركة فتح في العام 1963.
وجرت على أراضيها عملية تبادل للأسرى بين فصائل الثورة الفلسطينية وسلطات الاحتلال عام 1968، فيما استقبلت الجزائر آلاف الطلاب الفلسطينيين في جامعاتها، وسمحت بالتدريب العسكري لطلاب فلسطينيين في الكلية الحربية الجزائرية، التي تخرج منها الكثير من قيادات العمل الوطني المقاوم.
ولم يتوقف الأمر عند الدعم المعنوي، ففي 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 كان للجزائر دور آلَمَ الاحتلال الإسرائيلي، فحين شنت كل من مصر وسوريا في وقتٍ واحدٍ حرباً على الاحتلال الإسرائيلي، واشتبك المصريون مع “إسرائيل” في سيناء، والسوريون في الجولان، كان هناك دولتان عربيتان لم تحتملا المشاركة الرمزية والاكتفاء بالدعم اللوجستي، فالجيش العراقي هب نحو سوريا، بينما كانت فيالق الجزائر تزحف لإسناد مصر، إلا أنّ “إسرائيل” لم تعر الموضوع أهمية، إذ وصف الجنرال العسكري الإسرائيلي حينها أرئيل شارون أسلحة الجيش الجزائري بالبدائية، وتوقّع فرار الجنود الجزائريين لمجرد رؤية دباباته، فكانت الصدمة، إذ خلق هذا الأمر عقدة عسكرية دخلت كتب التاريخ العسكري الإسرائيلي تحت اسم “عقدة شارون”.
رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية دافيد إليعازر سرد في مذكراته تفاصيل خسارة قوات الاحتلال في الحرب العربية الإسرائيلية، وبرّأ نفسه من هزيمة صنعها الإسرائيليون، قائلاً: “استهتار شارون بالجزائريين أحد أسباب خسارتنا الحرب”.
وحمّل صاحب الكتاب شارون، الذي وصفه بالمغرور، نتيجة الهزيمة، واعترف بخسارتهم في يوم واحد 900 من أفضل الضباط والجنود الإسرائيليين، كما خسروا يومها 172 دبابة.
وبعد اتفاقية أوسلو عام 1993، استمرت الجزائر بدعمها للقضية الفلسطينية. وكان آخر هذه المواقف، رفض رئيس الجزائر عبد المجيد تبون الهرولة نحو التطبيع، قائلاً: “الجزائر لن تبارك ولن تشارك في الهرولة نحو التطبيع”.