ملعقة شعب – زاهر أبو حمدة
أن تمشي 40 كلم من بيسان إلى جنين في طرق وعرة متخفياً من أكثر من 50 ألف عسكري ورجل أمن، يملكون تقنيات متطورة للتعقب والمراقبة وتصل إلى مبتغاك وتختفي لـ13 يوماً بعدما انتزعت حريتك بخطة عبقرية؛ هذا هو الانتصار. ويظن البعض أن العبرة بالخواتيم ويفضلون دائماً النهايات السعيدة، ولكن السعادة الحقيقية هي أصل الفعل وتكمن المتعة في صيرورة الفعل. لذلك ستجد الأسير استمتع بتفاصيل لا تخطر في بالك أبداً علماً أنه توقع سيناريو إعادة الاعتقال.
أن تحفر نفقاً بملعقة، وتزحف لتجد الشمس ترحّب بك، وتُهرول فرحاً وليس خوفاً، فترى حبة صبر تنتظرك، فتناولها كأنها جائزة عن صبر أعوام الأسر؛ هذا هو الانتصار.
أن تدخل مسجداً لتتوضأ وتصلي كأي مؤمن يناجي ربه سراً وعلناً، وتتمختر في بلادك المنسية وتكتشف أنك تتذكرها منفرداً متفرداً. وتراقب من بين عجلات شاحنة مركونة في منطقة جبل الطور، تطور الاحتلال عبر الأجيال لتنهض فتجد عدوك في كابوس لن ينتهي؛ هذا هو الانتصار.
أن تتحول إلى خبر عاجل وبعدها خبراً أول على التلفزات العالمية، وتصدق نبوءتك في عصر الوهم الرقمي و«الترند» الموجّه والشهرة التافهة، فأنت تضع نقاطاً فوق الحروف وتحتها، لتكون أنت الحرية بأقصى مداها.
أن تقف في المحكمة رافعاً شارة النصر، ويحاول «الشاباص» كسر كبريائك فتبتسم فتسكر جبروته وصيته. هذا هو الانتصار.
■ ■ ■
وسط تشتت 14 مليون فلسطيني يجمعهم ستة أشخاص شاءت الحرب المستمرة أن يكونوا أسرى، فلا أحد يعرف أسماءهم قبل 6 أيلول 2021، فتحفظهم الألسن، ونعرف ملامحهم في صور ويصبحوا قصة بطولية أهم من قصص عنترة بن شداد والزير سالم وحاتم الطائي. ولأهمية القصة حيث بدأت بقرار ومن ثم ملعقة، يبدو الشعب الفلسطيني كله يحتاج قراراً والأهم أنه بحاجة لملعقة لينال حريته. فالسجون تعددت وكلها وفقاً للعدد والجغرافيا. عين الحلوة سجن. قطاع غزة سجن. الضفة أكثر من سجن في سجن واحد. أهل الـ48 في سجون لها إطارها الواسع والضيق. اليرموك سجن مهدم. فلسطينيو ليبيا مثل فلسطيني العراق في سجون متنقلة. فلسطينيو أوروبا والأميركيتين في سجون الهوية والانتماء والاندماج. الشعب كله في معتقل يحتاج ملعقة يحفر فيها، فكان الأسرى الستة رمزاً ليس للتحرر فقط إنما للإرادة قبل كل شيء.
يظن الاحتلال أنه كسر الملعقة ليمنع الحرية الفردية والجماعية. لكن هذا الشعب صاحب أعلى مستوى في المفاجآت. مفاجأة واحدة تأتي مرة بملعقة وأخرى بصاروخ أو برصاص، وربما تكون بهبة شعبية تصنع المستحيل. وإن كان العرب عندهم ثلاثة مستحيلات: الغول والعنقاء والخل الوفي. فبكل تأكيد رابع المستحيلات هي ملعقة سجن جلبوع.