حرب عالمية ذات بًعد حضاري – منير شفيق
حدث تطوّران هامّان في الحرب الأمريكية ـ الروسية في أوكرانيا، الأول والأهم انتقال ألمانيا ـ أوروبا من حالة المؤيّد للحرب انسياقاً وراء القرار الأمريكي، إلى حالة الطرف الشريك في الحرب، والأهم القرار الألماني بالتسلح من جديد، والخروج من الشروط التي وُضِعت على ألمانيا من قِبَل “الحلفاء”، أساساً أمريكا، بعد الحرب العالمية الثانية.
والتطوّر الثاني تمثل باستعادة رئيس أوكرانيا فلوديمير زيلينسكي لحوالى ستة آلاف كيلومتر مربع من الأرض التي كانت تحت السيطرة الروسية. وذلك نتيجة ما وصل الجيش الأوكراني من أسلحة أوروبية ـ أمريكية وخبراء في استخدامها. مما أحدث تغييراً في ميزان القوى العسكري على الأرض الأوكرانية. وهو ما يعني أن تصعد روسيا باستراتيجيتها وتكتيكها العسكريين، لاستعادة زمام المبادرة، والعودة إلى التفوّق الميداني من جديد.
بالنسبة إلى هذا التطوّر الثاني فقد صحبتهُ حملة إعلامية ونفسية تصوّر أن الحرب أخذت تنتقل، أو انتقلت، إلى مرحلة إنزال الهزيمة بروسيا. علماً أن ما من حرب كبرى، لا سيما، إذا كانت ذات طابع عالمي، إلاّ وتحمل صفة التعرّج، والتداول في تلقي اللكمات وتوجيهها، أو كسب المعارك الجزئية، حتى بالنسبة إلى الطرف غير المتكافئ مع عدوه، من ناحية عسكرية. لهذا من المبكر جداً، إن لم يكن من المبالغ فيه جداً، اعتبار أن ميزان القوى في أوكرانيا قد غيّر من اتجاهه. فما زال الجيش الروسي هو المتفوّق، وهو الذي يملك إمكانات مضاعفة قوّته العسكرية إلى مستويات لم يدخلها في المعارك التي جرت حتى الآن في أوكرانيا. ولعل من تابع بدقة كيف تعاملت روسيا مع أوكرانيا والشعب الأوكراني، في هذه الحرب، يلحظ أن ثمة مراعاة كبيرة لا تزال ضمن أقل ما يمكن من الخسائر المدنية، أو التدمير للبنى التحتية. وهذا راجع لما يجمع بين الشعبين الروسي والأوكراني من روابط تاريخية، وعلاقات شقيقية تاريخية.
إن روسيا لا تستطيع البقاء دولة كبرى، ولا حتى دولة مستقلة موحَّدة، إذا ما خسرت الحرب، أو خرجت من أوكرانيا مهزومة، أو إذا أُسقِط بوتين ونظامه. وذلك وفقاً لما أعلنه جو بايدن من هدف للحرب ضد بوتين في أوكرانيا.
إن المبالغة في تقدير الموقف، في التهويل بالإنجاز العسكري الأوكراني الأخير، سينقلب إلى نقيضه، عندما يبدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بما أسماه بالجد في الحرب الأوكرانية، لأنه اعتبر أن كل ما قام به الجيش الروسي عسكرياً ما زال في حدود “المزح”. طبعاً قياساً بما يمكن أن يحدث في المرحلة القادمة.
إن روسيا لا تستطيع البقاء دولة كبرى، ولا حتى دولة مستقلة موحَّدة، إذا ما خسرت الحرب، أو خرجت من أوكرانيا مهزومة، أو إذا أُسقِط بوتين ونظامه. وذلك وفقاً لما أعلنه جو بايدن من هدف للحرب ضد بوتين في أوكرانيا. وإلاّ كيف يفسّر معنى المطالبة بمحاكمة بوتين “كمجرم حرب”. والأشد تأكيداً على هذا الهدف، يتجسّد في ممارسة أمريكا وحلفائها، منذ أول يوم إلى اليوم، في حرب أوكرانيا. فقد أغلقوا كل باب للتفاوض وإيجاد حل، ودفعوا بكل ما أمكنهم من إمكانات مادية وأسلحة وتحريض، لاستمرار الحرب حتى “النصر”.
على أن ما يجب أن يصار إلى التوقف عنده، إنما هو التحوّل الذي حدث في الموقف الألماني، وانتقاله إلى إعادة تسليح ألمانيا، “وما أدراك ما معنى ومغزى عودة ألمانيا قوة عسكرية كبرى؟”. وهي تملك كل الشروط العلمية والتقنية والاقتصادية والمعرفية والتجريبية لتحقيق ذلك بأسرع ما يمكن، ولا سيما إذا ما اتسّعت الحرب العالمية الراهنة، والمندلعة بين أمريكا وحلفائها ضد الصين وروسيا. فالعالم مع الحرب الأوكرانية، ومع التصعيد المستمر من جانب أمريكا ضد الصين (من خلال المشكل التايواني)، دخل ما يمكن اعتباره نمطاً من الحرب العالمية، دون سقف الحرب النووية، ودون سقف الاشتباك مع الصين، في ما يشبه الحرب الأوكرانية أو أشد.
لقد خرج الوضع العالمي من الحال الذي كان عليه في العقدين الماضيين قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، وانتقل إلى وضع الارتفاع بالتناقض بين أمريكا والصين من حالة حرب باردة تتسّم بسباق التسلح، والسباق التكنولوجي، والسباق الاقتصادي، إلى “حالة حرب” اندلعت فيها الحرب الأوكرانية والأزمة التايوانية، ومظاهر أخرى، تحريضية. وذلك لسدّ الطرق في وجه التطوّر الصيني، سلمياً تحت خيمة العولمة. لأن أمريكا تأكدت أن الصين، في طريقها إلى احتلال موقع الدولة الكبرى رقم 1، مكان الولايات المتحدة، خلال عقدين من الزمن، وذلك إذا ما استمر التنافس، كما جرى خلال العقدين الماضيين، في ظل العولمة، ووضع ما قبل حرب أوكرانيا، ولو تحت مظلة أمريكا الدولة الكبرى رقم 1.
حقاً، إنه لمن اللافت للنظر أن تطالب الصين بنظام العولمة الذي ساد ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أو قل ما بعد انتصار أمريكا في الحرب الباردة. وذلك في الوقت الذي راحت فيه أمريكا تدفع بإنزال العقوبات الاقتصادية هنا وهناك، فيما الهدف وضع حد للتطور الصيني، الذي أخذ يتقدم بقفزات في المجالات العسكرية والتقنية والاقتصادية.
إن الحرب الباردة هي الحرب التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن حالت الحرب النووية، دون حسم التناقض بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، والمعسكر “الشرقي” بقيادة الاتحاد السوفياتي، دون اندلاع حرب عالمية ثالثة من نمط الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد ضمنت أن تفوز بالحرب البادرة، ما دامت ستعتمد على سباق التسلح، دون الوصول إلى الحرب الحامية. وما دامت ستعتمد على التنافس الاقتصادي والتقني المدني والعلمي، وتحقيق دولة الرفاه. وبالفعل لم تكد تبدأ تسعينيات القرن العشرين حتى كان الغرب بزعامة أمريكا قد سجل نصراً حاسماً، وذلك بتفكيك المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي نفسه. فأعلن انتصاره التاريخي، وإقامة النظام العالمي أحادي القطبية، بزعامة أمريكا “مطلقة السيطرة والتحكم”.
من اللافت للنظر أن تطالب الصين بنظام العولمة الذي ساد ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أو قل ما بعد انتصار أمريكا في الحرب الباردة. وذلك في الوقت الذي راحت فيه أمريكا تدفع بإنزال العقوبات الاقتصادية هنا وهناك، فيما الهدف وضع حد للتطور الصيني، الذي أخذ يتقدم بقفزات في المجالات العسكرية والتقنية والاقتصادية.
ولكن اليوم، بعد ثلاثة عقود، لم يعد بإمكان أمريكا، مع تعذر اندلاع حرب عالمية نووية، أن تكرر مع الصين وروسيا تجربتها السابقة ـ “الحرب الباردة” التي عمادها الاقتصاد والمال، والسباق التقني المدني، في ظل سباق التسلح. لأن الصين ستكون المنتصرة فيها، مهما حاولت أمريكا تمديد تأجيل ذلك.
هذا الذي يُفسّر انتقال أمريكا والغرب، إلى استراتيجية من نوع جديد، تعبّر الحرب الأوكرانية عن أولى إرهاصاتها.
تبقى نقطة تحتاج إلى إيضاح وهي انتقال ألمانيا، ومعها فرنسا إلى الانخراط في هذه الحرب العالمية الجديدة. وذلك للحفاظ، ليس على السيطرة الغربية العسكرية والسياسية والاقتصادية، على العالم فحسب، وإنما أيضاً، وهذا هو الجديد في هذه الحرب: الحفاظ على السيطرة الحضارية الغربية. لأن الصين في حال انتصارها، ستحمل معها حضارة غير الحضارة الغربية، أو، في الأقل حضارة صينية، مع صعود حضارات شرقية أخرى، بما فيها الحضارة الهندية، والحضارة الإسلامية.
إن الصراع مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي عموماً، كان يحمل طابعاً طبقياً وسياسياً واقتصادياً، غير متنافض مع الحضارة الغربية. أما الصراع مع الصين على الخصوص، وما سيصاحبها من نهوض لشعوب أخرى إسلامية وآسيوية وأمريكية لاتينية، يحمل في طياته صراعاً حضارياً بارزاً.
لهذا فإن ثمة البُعد الحضاري، ولو كان مضمراً، في الصراع مع الصين وشعوب أخرى. وهذا ما يجب الانتباه إليه، وخصوصاً بالنسبة إلى أوروبا المعنية بالحضارة الغربية حتى أكثر من أمريكا.