رشاد أبو شاور في الحب وليالي البوم – د. حسين جمعة
ومن هذا المنطلق كان ميله إلى بلوغ أقصى درجات المصداقية في تجسيد النكبة، وإعادة هيكلة وجهها الحقيقي، وجلاء الأجواء القاتمة للكارثة الفلسطينية على مختلف المستويات بإيراد أدق تفاصيل الأحداث ومجرياتها، والاجتهاد في تقديم بانوراما تاريخية شاملة تنتظم وحدة مصير الشعب وكفاحه العنيد عبر الشخوص الفاعلة والملابسات القائمة. وعليه، يُعتبر هذا العمل رواية شخوص وأحداث في ظروف قاهرة، وفي غاية من التعقيد وفقدان الوطن والأمل في استرداده.. أي أنه تجسيد لحياة شعب في لحظات انعطاف حادة من التطور التاريخي، حياة زاخرة بالآلام والحيرة والضياع، تتلاعب بمصائر شخوصها الأهواء والعواصف العاتية، بحيث تتبدى درامية الأحداث وسخونتها، وضبابية مآلاتها من خلال تنظيم مجرى الوقائع وبناء السرد لتدعيم سياق جدلي يربط الأحداث بمصير الشخوص في وحدة متماسكة ذات ملامح مشتركة عامة، تتجلى فيها هذه الشخوص والوجوه الفاعلة في تيار التقلبات التاريخية الفعلية بنصوع تام، وشاعرية ملموسة توحي بإحساس نابض بتاريخ الشعب وتراثه وما يحمله من عادات وتقاليد تسري في دم الأجيال، وتشحن مكامن البطولة في نفوسهم.
يبدو أن رشاد أبو شاور بعد أن تحصّن وتقوّى بخبرات السنين في الحياة وفي الكتابة، أراد أن يتخفى في زي ضمير الغائب، ليستوفي ما تم السكوت عنه من المصائب التي حلّت بالشعب الفلسطيني، ويستبيح بعض المناطق المعتمة والمغيّبة، التي تكشف الستار عن الشقاء والمعاناة في ظل التهجير القسري من قبل العصابات الصهيونية الغادرة للفلسطينيين، وتشتت شملهم وعائلاتهم في مخيمات بائسة وملابسات لا إنسانية فائقة؛ فلجأ إلى رواية ما عايشه طفلاً، واستقر في مخزون ذاكرته الثاقبة، وما تحصّل عليه من محيطه ومن والده بالذات عما صادفهم في هذه المسيرة المظلمة، في عمل فني يقع في 450صفحة من القطع المتوسط، ينير فيه طيفاً من مجريات الكارثة، وشدة الصدمة وعظم الفجيعة التي حاقت بشعب كامل لتمرير المشروع الصهيوني في خدمة المصالح الإمبريالية في المنطقة.
ذاكرة الطفولة – ذاكرة مرهفة تتذكر كل شيء ولا تنسى أي صغيرة أو كبيرة، لا سيما إذا كانت حصيلة زمن قاسٍ متخاذل ماحق للشخصية الإنسانية؛ مما يستثير الرؤية الطفولية لتنسج ما هو واقعي يقيني وتاريخي ملموس وتدمجه بما هو شاعري عبر منظارها الخاص المتفرد، وتزينه باللحن الرومانسي لتصنع عالمها الذاتي المخصوص الذي تجلى على أنصع وجه في هذه الرواية التسجيلية التي أقامت الجسور المتينة بين الإنسان والطبيعة.
الطفل رشاد عاش مأساة النكبة بكل جوارحه وهمومه من موت والدته وشقيقته، وعيشه مع والده وحيداً إلى ما تعرض له هذا الأب من محنٍ وسجنٍ وتعذيب وهروب من المخيم إلى ساحة أخرى، وحتى غدا مع الزمن كاتباً مرموقاً ومعروفاً، تولدت عنده رغبة عارمة في القص عن نفسه وحياته ومصيره ووسطه الاجتماعي، وعن كيفية عيشه ومسيرة حياته. وقد كان للبيئة التي احتضنته صغيراً، وللمصير الذي آل إليه شعبه، وكذلك سنوات طفولته الممزوجة بالحرمان والقلق المربك، تأثير متعاظم على مستقبله، وأفضت إلى شحن الطفل بالجرأة، وسكبت في عضده قوة وشدة ظاهرة بعد أن فتحت ذهنيته على التعرف على العالم وعلى المصائب التي نالت من شعبه ومنه شخصياً. أمضى رشاد – الكاتب – حياة سلوكية انفعالية من أولى خطواته وبدء معاناته مع شعبه إلى أن أصبح يافعاً، حياة ترافقت مع مسار النكبة الفلسطينية المظلّلة بالقسوة والمكابدات الشديدة، والمشحونة بدرامية مزعجة. معاناة الكاتب جزء لا يتجزأ من معاناة شعبه، وظاهرة من ظواهر الزمن التاريخية الحادة – فوجب عليه أن يكتب تاريخه وتاريخ زمنه، بحيث تعود الذاكرة حية ناصعة تتوسع في نقل المعلومات الوثائقية شبه الدقيقة، وتغدو لحناً حزيناً للإنسان الطائر في الزمان والمكان، تدعم تحليل نفسيات الأبطال والشخوص المشاركة في الأحداث واستبطان نذر الملابسات التاريخية الملتفة حول مصائرهم، والدالة على سلوكهم وتصرفاتهم؛ فجاءت الرواية لوحة فنية متقاطعة ومتشابكة من الروابط العائلية والحزبية، تقدم صورة أصلية شبه تامة لحالة التشرد الفلسطيني والعيش خارج الوطن في ظروف مخيمات الإذلال والتجويع والرعب الدائم، وكل ما ورد في الرواية من أسماء وشخوص- هي وجوه حقيقية لأناس عاشوا المرحلة واكتووا بنيرانها ولظاها الحارق.
في لجة استخذاء الجيوش العربية وهزيمتها المخجلة أمام العصابات الصهيونية المنظمة والمعدة إعداداً صارماً، توصل الفلسطينيون إلى قناعة تامة بأن وطنهم قد ضاع، وهم في المغاور والكهوف وتحت الأشجار في فصل الشتاء المرعب، فكان لا بد من البحث عن حل بعيداً عن التعويل على الغير الذي اعترف بتقصيره وعدم كفاءته، وأنه غير قادر على استرداد ما سلبه وتمت السيطرة عليه، وفي هذا الشأن يقول الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى):
زعماء! دنّسوا تاريخكم | وملوك شردوكم دون ذنب | |
وجيوش غفر الله لها | سلمت أوطانكم من غير حرب |
بعد أن أجهزت هذه الجيوش على المقاومة الفلسطينية، وصادرت سلاحها بحجة عدم تمتعها بالخبرات اللازمة للحرب. إذن، ما العمل؟! رأى بعضهم، ويمثله بعض المخاتير أن الحل في رفع الراية البيضاء والعودة إلى القرى المهجورة، والعيش مع اليهود جنباً إلى جنب، لأن الفلسطيني لم يرتكب أي جريمة أو ذنب بحق هؤلاء الأغراب. وعليه، يمكن أن يسمحوا لهم بالعودة إلى بلداتهم وقراهم. وقد احتشد عدد من المشردين في مجموعة حملت الرايات البيض، وتوجهوا حيث تواجدت المجموعات اليهودية. لكن، ما إن اقترب الحشد من بعض الأحراش حتى انهال الرصاص المكتوم عليهم؛ فقتل شخص وجرح آخر، وطلب منهم العودة، وإلا فالموت المحتوم في انتظارهم. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل أن هذه العصابات المارقة قامت بطرد الفلسطينيين عن سابق إصرار، وليس في نيتها التعايش مع الفلسطينيين، وأبلغ إثبات على ذلك مذبحة دير ياسين ومذبحة الطنطورة، ومذابح الدراويش في قرية حتا وفي بلدة الدوايمة وغيرها. ولذكر الدوايمة هنا وقع خاص، إذ أن سالم الدوايمي كان صاحب الحل الثاني، وهو ومعه جماعة من المسلحين الآخرين، الذين لم يرفعوا الرايات البيض، ولم يستسلموا لا للعدو ولا للصديق. وكان عليهم أن يسعوا إلى التغلب على الطرفين بشتى الطرق الكفيلة بإنجاز مهماتهم وواجباتهم الكفاحية. ومع الأسف، فإن هذا التوجه لم يجد من يسنده ويدعمه، وألمع من ذلك فقد وُجد من تصدى له وعمل على إخفاقه، كما تبرز الرواية الأثر المعطل لهذا الحل جراء مؤتمر أريحا الاستباقي الخياني ووحدة الضفتين، ووقوع الفلسطينيين في قبضة الأجهزة الأمنية القمعية للنظام في الأردن، التي ارتكبت من المظالم ما لا يطاق تحت عنوان فرض «هيبة الدولة»، لخدمة المشروع الصهيوني وتثبيته في أرض فلسطين. وكان لاستلهام هذه الحيثية الأثر البالغ في سلوك الشخصية الرئيسة في الرواية، ورفضه المشاركة في مؤتمر أريحا المشؤوم، انطلاقاً من تلقائية وعيه بأن هذا المؤتمر مؤامرة على الشعب الفلسطيني، وعلى كفاحه في سبيل استرداد أرضه وكرامته. ولعل نشاطه الروحي هذا نشأ وتبلور في نطاق نفسيته التي قامت على إمكانية إعادة إنتاج الانطباعات الماضية التي حركت أحاسيسه، وأضحت معالم من الأفكار الحبيسة التي تحتاج إلى مفجر أو آمر أخلاقي أو اجتماعي لاشتعالها. شخصية محمود شاور (أبو رشاد) شخصية حقيقية تشكلت في ذكرين، وكبرت حدّ الهرم في مخيمات الذل والهوان، وقطعت مشواراً عامراً باللدغات والجروح النازفة. تعرف على عصبة التحرر الوطني الفلسطينية، واقترب من بعض مؤسسيها، وبعد النكبة وتأسيس الحزب الشيوعي الأردني، انتسب إليه وانضم إلى تشكيلاته التي شرعت تعمل في الخفاء في معظم مناطق البلاد؛ مما عرضه للسجن ولأبشع ألوان التعذيب الجسدي والنفسي، وحرمه – هو وابنه- من أسباب العيش البسيطة. ناهيك عن التهم المجانية التي كان يبثها حراس النظام وسماسرته وجلاوزته عن الفساد الأخلاقي والأسري والسلوك الإباحي للشيوعيين، وانتهاكهم للمثل الإسلامية، والقيم المتعارف عليها في المجتمع؛ مما كان يعرضه للإحراج والإيماءات الخبيثة، واللمز الخفي على فعلته الشنيعة، بانتسابه لحزب مجرّد من الأخلاق والمواصفات الحميدة.
لم تكن علاقة أبو رشاد بالحزب الشيوعي علاقة تسليم بكل ما يصدر عن الحزب من تعليمات وأوامر، فقد راودته الحيرة من بعض المواقف، ومنها تسمية الحزب بالحزب الشيوعي الأردني، وتساءل: أين فلسطين؟ كما لم يسلّم تماماً بما جاء في بيان تشكيل الحزب الذي لم يأت على ذكر فلسطين، وإنما اقتصر على عدد من المطالب الاجتماعية والسياسية، ورفض فكرة ضم قطاع غزة إلى إسرائيل، التي طرحها بعض أعضاء الحزب، والتي لم تجد لها أي صدى عند معظم من تم أخذ رأيهم في هذا الشأن. وعبَّر داخلياً عن احتجاجه على عدم ترشيح الدكتور عبد الرحيم بدر إلى الانتخابات النيابية بعد أن كان يرافق الدكتور زيادين في الانتخابات السابقة على انتخابات عام 1956 التي أفرزت مجلساً نيابياً لم يتكرر في تاريخ الأردن، الذي أفضى إلى وصول سليمان النابلسي إلى رئاسة الوزراء لمدة قصيرة، حيث تمت الإطاحة به بالتآمر على الشعب وعلى الحكومة، وجيء بحكومة سمير الرفاعي التي أعلنت الأحكام العرفية وحالة الطوارئ في البلاد، وانقضت على الحركة الوطنية، وأدخلت معظم الناشطين الوطنيين في السجون والمعتقلات، ومن لم يقع في قبضتها هرب إلى سوريا ليصبح لاجئاً سياسياً، ومن بين هؤلاء كان أبو رشاد وابن أخيه أحمد. وأحمد هذا هو الشيوعي المعروف أحمد أبو شاور، الذي لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، لكن السلطات لم تكن ترحم أحداً آنذاك. لم يكن موقف أبو رشاد من ضبابية طروحات الحزب حول بعض القضايا، لا سيما القضية الفلسطينية فريداً، فقد شاركه كثير من الشيوعيين هذا الموقف. لكن، ما يهمنا هنا، هو استغراق السارد في باطن الشخصية الرئيسة، والتوغل في أعماقها جراء الأحداث المتسارعة التي كانت تغزو الساحة الأردنية والعربية كي يبلغ القصد الفني الذي أراد أن يبلوه ويتحرّاه، وهو ما كان يؤرقه ويتساءل عن الدرب المستقيم الذي ينبغي أن يسير عليه، وما يتماشى مع سياسة الحزب ومواقفه، حتى في حبه وكرهه، مع أن الطهارة الملائكية غير ممكنة، وأن البطل المثالي هو من يستطيع تجسيد المثال الجمالي إلى الحد المعقول الذي يتسق وواقع الشخصية الإنسانية، والبيئة الاجتماعية التي يتحصن فيها، ويحيى في إطار مثلها وأعرافها، حيث يتلازم صدق الحياة مع صدقية الفن.
الرواية عامرة بالتفاصيل الدقيقة، والرصد الثاقب لكل ما جرى من أحداث ووقائع من بداية أيام النكبة إلى مغادرة الشخصية الرئيسية البلاد إلى الخارج، وكان المؤلف يهيمن على مادة السرد، ويحاول إخضاعها للحالات المشحونة بالدرامية لإنجاز المهمة التي أراد توصيلها للقاريء والمتلقي، ويقول له كم عانى الفرد الفلسطيني من مكابدات وإذلال وحرمان من أبسط ألوان العيش، والتعدي على كرامته الشخصية والمعنوية، وأن مشواره في الحياة لا يزال شاخصاً حياً ما دام لم يسترجع وطنه ويعود إلى أرضه المسلوبة.
ومن هنا ترك المؤلف النهاية مفتوحة لشتى الاحتمالات، وكأنه يقول: الإنسان
– وأخص الإنسان الفلسطيني – عابر سبيل تائه في الزمان والمكان، يقطع المسافات ويجتاز العقبات، ولا يعرف متى النهايات.