سلمى الخضراء في سفرها الأخير – رشاد أبوشاور
منذ عرفتها عرفت أنها تحب السفر، وقبل سفرتها الأخيرة بفترة قصيرة وهي تسافر. تتوجه للمطار، وتصعد الطائرة، وتفتح كتابا يهمها أن تترجمه، أو شيئا منه لموسوعة عن الشعر العربي، أو القصة العربية، أو الحضارة العربية الإسلامية.
منذ سنة لم أزرها في (شقتها) لأن ابن عمها، صديقي المهندس سعيد الخضراء الذي يحمل الجنسية النمساوية، جنسية البلد الذي درس الهندسة في جامعاته، واستقر به بعد تقاعده، والذي لم يغب عن العاصمة عمان التي له بيت فيها، ويهمه أن يبقى على تواصل مع الأهل والصحاب فيها، وعبرها مع من بقوا في فلسطين..لم يحضر، ولأن الدكتورة سلمى وهنت صحتها وثقل سمعها.
كنت أحتمي به، وأزورها معه، لأنني في حال زرتها بدونه فسأسمع زجرا وتأنيبا لا أستطيع الرّد عليه بسبب التقصير في زيارتها.
مرات أتجرأ وأزورها، ولكن مع أصدقاء يوسطونني لزيارتها، والتعرف بها عن قرب، وحمل ما تيسر مع أعمالهم الشعرية والنثرية لتقديمها لها، فتخفف الزجر وتحوله إلى لوم وعتاب أتملص منه بالضحك بحيث يطيش عني، فأنجو، وتنشغل هي بلباقة باستقبال ضيوفها، والتعرف بهم، وتتجاذب أطراف الحديث معهم حول الشعر، والأدب بشكل عام، ولا تنسى الضيافة فتنهض بين لحظة وأُخرى وتحمل صينية القهوة وبعض الحلوى، وقد اعتدت عليها رافضة لمساعدتها، فهي ترى في المساعدة تهمة لها بأنها متقدمة في العمر، وهذا ما لا تقر به.
عرفت فيما عرفته عنها أنها محبة للسفر، وقد نيّفت على الثمانين وباتت على تخوم التسعين، ولم أكن أجرؤ، لا أنا ولا صديقي سعيد، على سؤالها عن عمرها، وعمرها هو عمر شجرة معمّرة أعطت فصولا من الثمار والخصب، ولم تتوقف، وهي مع التقدم في العمر ظلت صاحبة مشاريع كبيرة تعجز عن النهوض بها مؤسسات كبرى، فما بالك بوزارات الثقافة في الدول العربيّة وهي فقيرة في الحضور والدور والعطاء.
كآخرين ممن عرفوها وصفتها بأنها مؤسسة اسمها سلمى الخضراء الجيوسي، ولم أجانب الحقيقة، فمن تابع نشاطاتها المتعددة التي لم تتوقف إلى ما قبل رحيلها بقليل، يردد هذا الوصف التقديري، هي التي رحلت يوم 20نيسان الجاري عن عمر بلغ ال97 عاما، لتلحق بقافلة من القادة الفلسطينيين الكبار، والأدباء الكبار، يتقدمهم عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدس وبطل معركة استعادة القسطل التي وقعت قبل يوم واحد من مذبحة دير ياسين التي استشهدت فيها المعلمة حياة بلابسي وهي تعالج الجرحى، وكانت تربطها بسلمى صداقة ظلت تستذكرها دائما…
لمعت سلمى الخضراء كشاعرة في بداية حياتها الأدبية،فترة الستينات بديونها الشعري (العودة من النبع الحالم)، وكانت الحركة الشعرية العربية تخوض معركة الحداثة وقصيدة التفعيلة، ولكنها بعد انشغالها بالتنقل مع زوجها الديبلوماسي في عدّة بلدان، والعمل الجامعي كأستاذة جامعية، وانشغالها بأعمالها الموسوعية، تحديدا بعد الانهماك في مشروع (بروتا) لترجمة الأدب العربي للغة الإنقليزية منذ عام 1980،وهو المشروع الذي قدمت عبره أعمالا موسوعية عن الحضارة الإسلامية، ومختارات من الروايات العربية والشعر العربي وكتب السير.
بدعم من جامعة كلومبيا، وتشجيع من البروفسور إدوارد سعيد أشرفت على تقديم أنطولوجيا الأدب الفلسطيني الحديث، والتي ضمت مختارات شعرية، وقصصية، وسيريّة، لخمسين من المبدعين الفلسطينيين، ومن بينهم نقلت فصولا من كتابي( آه يا بيروت)، وقد صدرت الأنطولوجيا في ثلاث طبعات أعوام 1992،1993،1994 واستقبلت باهتمام وقدمت معرفة عن المستوى الثقافي للشعب العربي الفلسطيني، وما يتمتع به مبدعوه.
قدمت الدكتورة سلمى أعمالاً موسوعية منها ( الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس)، وقد صدر في عام 1992، وكانت تختار الباحثين والمترجمين بعناية، وتدقق في عملهم، ومتابعة أعمالهم، حتى تصدر بمستوى لائق وموثق.
رغم انقطاع الدكتورة سلمى عن الإبداع الشعري فهي عكفت على دراسة تطور الحركة الشعرية العربية فقدمت عملها الموسوعي الإتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث باللغة الإنقليزية، وقد ترجم للغة العربية وصدر في جزئين.
قدمت باللغة الإنقليزية عملا موسوعيا عن المدينة الإسلامية، وقد استقبل العمل باهتنام كبير، وبفوزه بأنه بقي في الصحافة البريطانية لعدة أسابيع في مقدمة الكتب الأكثر مبيعا في بريطانيا بحسب الصحف البريطانية، وكانت فخورة بما أنجزت وقد أطلعتني أنا والمهندس سعيد على الكتاب الموسوعي الضخم وبعض صفحات الصحف البريطانية التي احتفت بعملها الذي قدم لأول مرّة عملا كبيرا يُعرّف بالمدينة الإسلامية وهو ما كان مجهولا، وعرف بفضل ما بذلته الدكتورة سلمى من الجهد.
لقد عاشت الدكتورة سلمى الخضرا الجيوسي حياتها كما يقال باللهجة الشعبية الفلسطينية عرضين وطول، حياة ممتدة غنية منجزة، وعملت كمؤسسة تعجز عن تأسيسها دول، وكانت مؤمنة برسالتها لتقديم الوجه الحضاري الثقافي لأمتها، وقامت بدورها المشرّف بإخلاص وصدق ودأب، وجابت بلاد العالم، وكرّمت، ومنحت أرفع شهادات التقدير، والأوسمة، والجوائز…
عاشت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي حياة غنية ممتدة بلغت ال97عاما، ولذا يحق لوطنها، لأمتها، لثقافتها العربية الأصيلة أن تفخر بها، وأن تشكرها كثيرا على ما قدمته عن ثقافة أمتها، ودورها الحضاري التاريخي العريق.
شكرا دكتورة سلمى، ستبقين حيّة وحاضرة بكل ما قدمته، وستعيشين لزمن ممتد في ضمير أمتك وثقافتها. لروحك الرحمة والسلام، ولذكراك المجد والفخر.