أيّام القمل – حكاية: رشاد أبوشاور
شمّر أستاذنا أحمد العجوري قمبازه فظهر سرواله الأبيض الواسع حول خصره وفخذيه، والذي يضيق حول ساقيه، وينتفخ حول بطنه، ورفع ماكنة الحلاقة بيده، وخاطبنا:
_هذه ماكنة حلاقة، كنت أستعملها مع المقص قبل أن يحتل اليهود قريتنا عجّور، فأحلق الرؤوس وأشذّب الشوارب: عارفين شو يعني أُشذّب؟ يعني أقصقصها بحيث يكون شعر الشوارب غير متنافر، و..كان عندنا صابون نابلسي مصنوع من زيت الزيتون نغسل به رؤوسنا وأجسادنا، وبخاصة يوم الجمعة لأن الرجال يتوجون لصلاة الجماعة، والنساء يعتنين بأطفالهن فيدعكن رؤوسهم، ورؤوس البنات، دعكا يكاد يقشّر الجليد، وهكذا لا يقترب القمل من الرؤوس والأبدان.
حاليا يا شاطرين نحن في مخيّم الدهيشة ولا نملك صابونا نابلسيا نفرك به أبداننا ورؤوسنا، وتغسل به الأمهات والأخوات ملابسنا.
نفض رأسه: أساسا نحن بالكاد نملك ملابس تستر أجسادنا، فقد شرد الناس بأطفالهم حتى لا تقتلهم الطيارات والرشاشات..وهي أسلحة لا نملك ما نواجهها به.
ضغط على ذراعي ماكنة الحلاقة:
-بهذه سنواجه القمل..كيف؟ نحلق شعرنا على الصفر، وهيك يا شاطرين نحرم القمل من الإختباء بين الشعر لأننا حلقناه…
رفع ولد يجلس على حجر بجانبي إصبعه وسأل:
-والبراغيث يا أستاز؟
_القمل والبراغيث تتغذى من دمنا، ونحن دمنا ضعيف لأننا نأكل طعاما لا يشبعنا..يعني القمل يمّص دمنا، يعني لا يهمه أن نموت، وهكذا فهو يفعل بنا ما فعله اليهود الذين طردونا من قرانا وبيوتنا ورمونا تحت الخيام للبرد والجوع والقمل…
بجواره وضع حجرا كبيرا مرتفعا، وأشار لنا أن نتقدم واحدا واحدا لمواجهة القمل والبراغيث،فرفعنا أجسادنا عن الحجارة التي نجلس عليها رغم أنها غير مريحة وتزاحمنا أمامه، فانهمك في حلق رؤوسنا، وقرب أقدامنا تراكم شعر رؤوسنا الغزير بما فيه من قمل، أمّا البراغيث فكانت تتقافز وتتطاير بأجسادها الصغيرة التي تكاد لا تُرى، والأستاذ أحمد يردد بحماسة:
-لعنة الله على القمل وزمنه، أتعرفون ماذا سنفعل بهذا الشعر الذي يخفي داخله القمل والبراغيث؟
رفعنا نظرنا لنتلقف الكلمات من فمه:
_اجمعوا أعوادا جافة واشعلوا فيها النار ثم..لنرمي الشعر حتى تحرق النار القمل فلا يتكاثر من جديد..ولكن لا بد من أن نغتسل بالماء الساخن، وبالصابون النابلسي.
أحذنا نتحسس رؤوسنا بأصابعنا، وعندما انتهى الأستاذ أحمد من حلق رؤوسنا جميعا، أخذ في ترديد:
راس روس
دار دور
وهو يمرر راحة يده على رؤوسنا:
-حتى نعود لدورنا، ولأيام الصابون النابلسي..حتى لايمص القمل دمنا، لازم نحلق شعرنا و..يلاّ فرصة: إلعبوا شوية وارجعوا إلى خيمة الدراسة.
وكأنما يُحدّث نفسه:
-هذه الأيّام، أيّام الجوع والقمل والعيش تحت الخيام ستمر، وستكبرون و..تقاتلون وتحررون قرانا ومدننا..سننتصر على القمل و..على من يحتلون قرانا ومننا.
*أنارشاد ولدت في قرية ( ذكرين) القريبة من قرية (عجور)، هاجم قرانا اليهود واحتلوها في شهر تشرين أوّل، وكان أول مخيّم نقيم تحت خيامه هو مخيّم الدهيشة جار مدينة بيت لحم، ولأنني عشت بداية أيّام النكبة عام 1948، ولأن ذاكرتي تختزن شقاء تلك الأيّام والسنوات فأنا أكتب حكاياتها، وهذه واحدة منها.
أنا ولدت بتاريخ 15حزيران 1942، واليوم 15 حزيران 2023أُرسل هذه الحكاية للميادين لتتغرف الأجيال على بعض معاناتنا، و..على أننا كبرنا برؤوس ممتلئة باليقين بحتمية تحرير كل قرى ومدن فلسطين، كما حرر الأستاذ أحمد العجوري رؤوسنا من القمل..لروحه الرحمة.
* 16حزيران 2023