“ايليا سليمان” يقدم “فلسطين في القلب” – مهند النابلسي
*المخرج المستبصر الأنيق “ايليا سليمان” يقدم “فلسطين في القلب” مرة اخرى بطريقة فذة غير مسبوقة/2019:
*في رسالة مجازية بالغة الدلالة وربما غير مقصودة:
*يستعرض احداثا واقعية في كل من الناصرة وباريس ونيويورك: ويأخذنا في رحلة تأمل تعبيري صامت بليغ لباريسيات يتمخطرن جميلات في الشوارع وأمريكانيات يتسوقن وهن مسلحات ومشاهد احتلال صهيوني قمعي كاتم وزعران وحواديت جيران وكحول وتجول في انحاء بلدة الناصرة…فنرى المثقف الفلسطيني التائه يهاجر هربا فيتحول الى رمز معبر صامت وتأمل عابر للقارات والمنافي مع عمل يحفل بالكوميديا المعبرة والرقص والغناء الجميل الصادح والمجاز الكامن: انه العمل السينمائي الفذ الثالث في استعراض اخراجي فريد ولافت يتماثل ربما مع اساليب كل من ” وودي الن وترانس مالك والكوميدي العتيق بوستر كيتون”، حيث حميمية وصراحة الأول ومناجاة الثاني وبحلقة الثالث الصامت ذات الدلالة: وينجح تماما هنا بتقديم سحر سينمائي خالص ومشاهد مجازية ذات دلالة كالطير الصغير الطريف اللحوح كاشارة ربما للشعب الفلسطيني المسجون تحت الاحتلال، أو كالشرطي النيويوركي البهلوان، والأمريكية المتمردة ذات الجناحين التي تهرب من ملاحقة الشرطة في حديقة عامة، وصولا لسائق التاكسي الأمريكي الأسمر الذي ينبهر لملاقاته لفلسطيني في نيويورك ويبلغ زوجته بحفاوة، او للموظف الفرنسي البيروقراطي اللامبالي الممل المتنصل من الدعم والمؤازرة، والأمريكية السينمائية المتعالية التي لا تعنيها فلسطين شيئا، فيما تصر على احياء ذكرى الاسباني المحتل “كورتيز” بفيلم جديد يتحدث بالانجليزية مع ممثل صديق اسباني (لاتيني) لا يتقنها، ولكنه مدمن للرقص التأملي الصامت، مطلقا الحكم من امثال أن الفلسطيني التائه يشرب (عكس الاخرين) ليتذكر فلسطينه وليس لينسى… وبأن فلسطين ستبقى منطبعة في ذاكرته وبأنها ستبقى وتنتصر ولكن ليس في عصرنا الراهن، ثم ليذكرنا بصياد الناصرة العجوز الخرفان الطريف وقصصه الخرافية وملاسنته البذيئة مع ابنه الشاب العاق، وانتهاء بقصة جاره اللص المزارع الذي يقدم له النصائح ويسقي الحديقة ويسرق الثمار مستهبلا مخرجنا (صاحب الحديقة)!
*لا بد انها الجنة/2019:
هجرة اختيارية من الناصرة ومن وطنه المحتل فلسطين:
مهاجرا لباريس ونيويورك، فالمخرج يعاين هنا بمنهجية واقعية وسيريالية معا ثلاث مدن، مطلقا خياله الابداعي الانتقائي، متعمقا بحالة رجل مأزووم ومطارد دوما بالتهجير وعدم الاستقرار، هاربا ومنزعجا دوما من ملاحقة الشرطة وسلوكيات الجيران، يستعرض في كوميديا ساخرة عميقة فكرة أن هذه المدن العالمية البراقة ليست جنة كما يعتقد الجميع: مقارنا ما يراه فيها عما يحدث دوما بوطنه المستباح في فلسطين المحتلة، حيث الاستنفار الأمني المزمن وملاحقات الأجانب والتفتيش اليومي المزعج للأجانب والنازحين كأنهم مشبوهين هاربين، متلمسا القمع وملاحقة البوليس في كل مكان (سواء في باحة مقهى باريسي أنيق او في فضاء منتزه نيويوركي شاسع جميل)، ابتداء من جنة باريس المدينة الأنيقة، مواجها نفس نمط الاشكالات في نيويورك، فيضطر للعودة محبطا للناصرة مسقط رأسه، وهو بطرحه السينمائي الشيق لم يركز ابدا على مغريات المجتمع الاستهلاكي الغربي البراقة، بل بقي مصرا على البحث عن الهوية والجنسية والانتماء والاستقرار الحياتي الآمن بعد مرور اكثر من عقد تقريبا على فيلمه الثاني اللافت “الزمن الباقي” في العام 2009 (والذي سبق وكتبت عنه).
*سليمان يواجه مجريات الأحداث حوله بحيادية جذابة متأملا كل ذلك بنظرات معبرة ذكية متفوقا على ايماءآت الكوميدي العتيق من أيام السينما الصامتة “بوستر كيتون”، كما أنه ذكرني ربما بروائي ياباني عبقري “نكد” شهير كنت قد قرأت عنه مؤخرا ويقال أنه لا يتحدث ابدا بمقابلاته الصحفية النادرة بل يرمق محدثه بنظرات عميقة غامضة حتى ان الصحفية التي زارته انفجرت بالبكاء هاربة بعد عدة دقائق…لكن سليمان مختلف هنا وهو لا يغفل ابدا عن كافة التفاصيل الصغيرة الطريفة، مستنفرا بقصد العواطف الحميمية والسوادوية الساخرة والكوميدية والمتناقضة، قادرا دوما على ابهارنا بمشاهد صاخبة غير متوقعة كالألعاب النارية في سماء باريس واحتفالات قوس النصر المتألقة: سليمان يبدو هنا كمعلم ساحر كاريزمي قادرا على اضافة تحفة سينمائية فريدة عالمية المغزى والمضمون، يستعرض فيها تجارب البداوة الحضارية المعاصرة وتجارب الوطن الجميل والمنافي والهجرة والاغتراب بطريقة غير مسبوقة، عاكسا بعمق الشخصية الفلسطينية المسالمة الحضارية، مبتعدا بقصد عن قصص الحب والعائلة والعنف والدراما العاطفية، لافتا انتباه العالم اللامبالي لمأساة فلسطين المزمنة المتجددة بهدؤ وبلا زعيق واستنفار عاطفي وتسول عاطفي مسرحي حزين “وميلو درامي” بائس!
*المقاومة السلمية واللامبالاة الغريبة تجاه الاحتلال الغاشم والتركيزعلى ترهات محلية:
ربما التزاما بتسهيل انتاج الشريط داخل الناصرة والتزاما مبالغ فيه بضوابط التمويل العربية والغربية بالاضافة لرغبة الريادة العالمية بانجاز عمل فريد مسالم مجازي، فكل هذه العناصر ربما منعت المخرج النبيه من تصوير مشاهد ترقى لمستوى “التصوير الواقعي” لجرائم الاحتلال هناك التي نسمع عنها يوميا والتي تتعدى مجرد كونها ملاحقات امنية تتماثل مع ممارسات شبيهة بمدن غربية كبرى كبرى كباريس ونيويورك، فقد رأينا أن الصهاينة يعتقلون الاطفال ويعذبوهم ويفجرون المنازل ويهجرون السكان ويسببون العمى للصحفيين الشرفاء بالرصاص المطاطي في عيونهم، ولا يرحمون حتى المقعدين والمعاقين من المقاومين، كما أنهم يقتلون أحيانا المواطن الفلسطيني عن بعد ويقنصونه لمجرد التباهي وارسال الصور لصديقاتهم بالموبايل، كل هذه الممارسات الاجرامية تجاهلها المخرج القدير بقصد ربما، وركز أكثر على مداخلات وتناقضات عادية داخل المجتمع الفلسطيني المستكين في بلدة الناصرة، علما بان العالم الغربي برمته كان سيصفق له مؤيدا لو نجح بالتركيز على بعض ممارسات القمع الصهيونية اليومية المعروفة، والتي ضج العالم في شرقه وغربه وجنوبه منها بلا استثناء فيما الصهيوني اليميني المتغطرس والغرب اليميني العنصري المتطرف وربما بعض العرب الداعمين /المطبعين الجدد/ واللامبالين “المتسترين” على أنفسهم والمنافقين الأدعياء!
*كما أني للحق لم استطع فهم بعض اللقطات ومغزاها ومنها حيادية جنود الاحتلال تجاه شاب “ازعر” فلسطيني عصبي يقذف بقنينة البيرا الفارغة على جدار بالقرب منهم مستفزا لهم دون ان يبالوا فيما يستغرقون بالنظر عبر مناظيرهم المكبرة لمكان ما بعيد لا نعرف كنهه…ثم مشهد شباب متمرد فلسطيني وتحرشهم ببعضهم البعض في ازقة الناصرة، ومشهد سخيف /لا معنى له/ يعبر عن شكوى شاربي ويسكي في مطعم فاخر من تقديم دجاجة مطبوخة بالكحول لسيدة برفقتهم، ناهيك عن محاولة جار له سرقة ثمار حديقته مرارا والاعتداء على حديقته استفزازا، وهذيان جار عجوز ثرثار كحولي أخر في استهلال الشريط، عندما تحدث بشغف عن قصة الأفعى التي تفخت له اطارات سسيارته عرفانا له بجميل قدمه لها /في محاولة لاقحام سيريالية عبثية لمشاهد شريطه/: علما بأن كل هذه المشاهد و”الحواديت” تدين المجتمع الفلسطيني بشكل ما وتشير بأنه غارق في السخافة واللامبالاة واللامعنى والانشغال بالذات، وربما يتعاطف الاحتلال الكاسح وبعض الغرب المتحيز مع وجهة النظرهذه، فهذه المشاهد هي اقرب للتهريج المجاني، ولا تقدم شيئا جليا معبرا لفيلم فلسطيني عالمي يتحدث عن معاناة الاحتلال الاستيطاني الغاشم الاجرامي، طبعا فكل هذا السرد العجيب الكوميدي الساخر يفسر لنا بالمحصلة سبب تقدير مهرجان كان “النقدي” الخاص للفيلم والسماح بانطلاق عروض تجارية للفيلم، فهو في نهاية المطاف لا يدين ابدا ممارسات الاحتلال الصهيوني بصورتها الراهنة المرعبة بل يتجاهلها تماما، بل ويشير بمجاز بأن كل ما يحدث هناك يتمائل ربما مع ممارسات وملاحقات الشرطة في مدن الغرب الحضارية الكبرى وربما أقل ازعاجا واستعراضا، وقد ازعجني ذلك تماما بحق وقادني لكتابتي النقدية المغايرة هذه، لكني وجدت في الخلاصة مغزى بالغ الدلالة!
*رسالة مجازية بالغة الدلالة وربما غير مقصودة:
يوصلها هذا الشريط الشيق بلا قصد ربما، وهي موجهة لكل الاخوة الفلسطينيين “المسيحيين” تحديدا مفادها/وهذه وجهة نظر نقدية خطابية مغايرة لم يكتشفها ربما احد سواي في هذا الشريط اللافت الممتع/: الرجاء عودوا لوطنكم الحبيب فلسطين في هجرة عكسية كبيرة، فهو ينتظركم وتحملوا مضايقات بعضكم لبعض وانسداد الافق والفرص والحرية في ظل الاحتلال الكاتم للأنفاس البغيض، فاذا ما كانت عواصم الغرب تحفل بالملاحقات البوليسية هذه ومضايقات الهجرة والنزوح وقلة الفرص و الملاحقة والحجز والقمع المتصاعد للمهاجرين واللاجئين الهاربين من ديارهم ، فالأولى ان تعودوا أنتم لاوطانكم ومدنكم وتراثكم وتتحملوا قرف الاحتلال ومساعيه الهادفة لتطفيشكم (التي لم نشاهدها تحديدا في هذا الفيلم الساكت عن توضيح هذه الممارسات)، وأنتم تتحملون مسؤولية القيام بدور تنويري حضاري في مدنكم ومجتمعاتكم، واذا ما اخذنا بالاعتبار الاحصائيات المفزعة التي تتحدث عن وجود ما يقارب ال83% من الاخوة الفلسطينيين المسيحيين خارج فلسطين التاريخية، مشتتين في الأمريكتين واستراليا وكندا ونيوزلندا واوربا وغيرها، وهذا ما يسعى له الاحتلال تحديدا وخاصة مع مشاريع الضم والاستيطان المتغول وصفقة القرن القادمة، فهو يسعى لتطفيش ماتبقى منهم مع الاخرين بشتى الطرق والوسائل والأساليب وخاصة في مناطق القدس والخليل…فخذوا أيها الاخوة الأكارم المبجلين “رحلة وهجرة ومعاناة” المخرج /المسيحي المسالم/ الفلسطيني الفذ “ايليا سليمان” كقدوة هنا في فيلمه اللافت هذا وعودوا لوطنكم الحبيب وأحذروا أن لا تهاجر البقية الباقية /الصامدة/ منكم، وهذه هي أعظم رسالة مجازية “غامضة” وبليغة يحملها هذا الفيلم وربما تغفر له كل عيوبه وطروحاته التي ذكرتها ضمن السياق، وربما لم ينتبه احدا /من المشاهدين والنقاد الأفاضل/ لهذا المغزى العميق الكامن ضمن الحبكة والمضمون والسياق والسيناريو “والله أعلم”!
*م.مهند النابلسي
كاتب وناقد/باحث سينمائي
عضو رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العربي لكتاب الانترنت والاتحاد العربي للكتاب والادباء…