أرضنا أبقى وأصدق من خرافاتهم – رشاد أبوشاور
تلّة عين السلطان التي ترتفع على يمين مدخل أريحا، أو يسارها، وأنت تدخل، أو تخرج من المدينة العريقة التي تقول توراتهم بأن (يوشع) قد أمر بإحراقها، ولم يبق سوى على أدوات الفضّة وما تيسّر من الذهب بعد تدمير أسوارها…
في الأرض المنخفضة، ومن تحت المرتفع، تتذفّق ألّذ وأخّف مياه في العالم، منذ ألوف السنين. ولأن الزراعة لا يمكن أن تخصب وتُطعم بدون الماء، فقد أقام سكّان أريحا القدماء في هذا المكان خصب الأرض، غزير الماء، المحمي طبيعيا بجبل شامخ يحتضنه، وتتشكّل فيه مغاور وكهوف تحمي اللائذين به في أوقات الخطر عندما يداهمهم غزاة طامعون، وتمكنهم من المقاومة بإسقاط الصخور فوقهم، ودحرهم بعيدا عن أرض يخصبونها بدأبهم، وبماء يروونها من نعمة تدفقه.
ليس هذا تغزلاً بمكان عشت قربه سنوات من عمري منذ طفولتي، فقد عرفت تل السلطان في طفولتي، وتأملت ما تبوح به من تراث أريحا العريقة…
يمتد مخيم (عين السلطان) من كتف الوادي الشتوي الذي يفصل بين بلدة النويعمة،بعد اللجوء (مخيّم النويعمة)، و(مخيّم عين السلطان)، اللذين أُنشئا بالخيم بداية، ثم عندما طالت أيام اللجوء انهمك اللاجئون في بناء غرف من الطين، غطّوها بأعواد البوص الجافة وبالطين، وهي غرف مبنية تماما كما كانت غرف سكّان أريحا القدامى يبنون، وذلك يعود إلى دفء الطين شتاء وبرودته صيفا، وبساطة البناء السهلة، وتواضع تكلفتها.
نمشي من مخيمنا، النويعمة، ونمّر بمخيم عين السلطان الممتد من كتف الوادي حتى (تلّة عين السلطان) على يمين الطريق، حيث تستلقي بيوت المخيم على سفح التلّة، وتبدو امتدادا لها، ويطل سكانها على بقايا مساكن تغمرها أكوام التراب، وإذ نُطّل عليها لا نستغرب تشابه أسلوب البناء قبل ألوف السنين وهذه الأيّام.
كنّا ننعطف ونهبط الطريق المائل، وننحني ونغّب من المياه الباردة في عّز الصيف، ونشرب ولا نرتوي فماء عين السلطان خفيف ويتسرّب في الجوف منعشا، ثمّ نغمس رؤوسنا ونبلل أعناقنا، ونشعر أننا جزء من المكان، من الماء، والحصى الناعم اللامع، وظلال النخيل، والتلّة المنتفخة التي تكتنز تاريخا وحضارةً، فهنا وجد أقدم تجمع بشري، وناسه بنوا بيوتا من طين_ من تراب الأرض، وماء الينبوع_ وزرعوا القمح، ودجنوا الحيوانات، وعاشوا وادعين مطمئنين.
كنّا نمر أحيانا فنرى من يحفرون بلطف، ينبشون عمق الأرض باحثين في أسرارها، ونشعر بالفخر بما تركه أسلافنا، وما يجتذب أشخاصا يقرؤون في أرضنا عصورا خلت تكتنز تاريخ تطوّر البشريّة، ويتعرفون على التطوّر الحضاري لمن عمروا هذا المكان، والذي رغمّ ما مرّ به من مُلمات وكوارث ما زال غنيا بالمعلومات التي تقدّم معرفة للبشرية.
أذكر أنني رأيت امرأة ببنطلون أبيض –تلك أول مرة أرى امرأة ترتدي بنطلونا، أنا وغيري، وهو ما أدهشنا، ثم عرفت أنها تقود فريق التنقيب_ ومضت سنوات حتى قرأت شيئا مما كتبته عالمة الآثار تلك، البريطانية كاثلين كينون عن أريحا القديمة.
أن تضع منظمة (اليونسكو) أريحا القديمة العريقة على قائمة التراث العالمي من بين أهم المواقع التاريخيّة فهذا لا يضيف جديدا لها، ولكنه يُنصفها ويكرّمها، ويضعها في موقعها العالي اللائق بها، وبناسها المؤسسين، الذين نحن امتداد لهم، والذين كنت أشعر منذ طفولتي المبكرة أن بيوتنا الطينيّة هي امتداد لبيوتهم، وأن ماءنا هو ماء ينابيع ارتووا منها، هم وأرضنا التي زرعوها فكانوا روّاد الزراعة والاستقرار، وأول تجمع بشري عرف الزراعة والأسرة وتدجين الحيوانات.
لقد وفرّت الطبيعة للكنعانيين الأوائل، أسلافنا، أبناء هذه الأرض، كل العناصر الكفيلة لتشكُّل بداية الاستقرار البشري، والانتقال من حياة القطعان الهائمة الجاهلة التي تعيش على ما يتوفر في الطبيعة، إلى حياة الاستقرار والاسرة، والتجمع البشري الذي يأكل من جهده في زراعة يبدعها، ويحتمي بالتكاتف وبما يتوفر له من قوّة الجماعة، ومن الاحتماء بمغاور وكهوف الجبل العريق، جبل قرنطل، والذي عرف بعد لجوء السيّد المسيح إليه بجبل (التجربة)، حيث انتصر على (الشيطان).
لا يمكن تزوير الحقائق التي تختزنها الأرض، مُطلق أرض، فهي تبوح للبشر بأسرارها وحقائقها بما تختزنه، وحقائقها لا يمكن أن تقاس على ما تدّعيه التوراة، وعلماء التاريخ ينطلقون من حقائق الأرض وما تقوله، ومن يزورون يريدون أن تقول الأرض ما تدّعيه التوراة، وفي زمننا تناقضت وجهتا النظر، وشنّ الصهاينة والمتصهينون حربا على مؤرخين رفضوا الاحتكام لما يدّعيه التوراتيون ودفعوا الثمن بطردهم من التدريس في جامعات عريقة ضحّت بمصداقيتها إرضاء للهيمنة التوراتية الصهيونيّة، وفي مقدمتهم البروفسور كيث وايتلام صاحب الكتاب التاريخي العظيم( اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني) الذي نسف تلفيقات التوراة وادعاءات الصهاينة والمؤرخين المنحازين لرواية التوراة الملفقة..والذي طرد من عمله الجامعي عقابا له على كتابه المدعّم بالحقائق العلمية.
بعد الاحتلال الصهيوني لكامل فلسطين حضر مؤرخان هولنديان شقيقان إلى منطقة بيسان وحفرا في أرضها، وبعد سنتين غادرا وعقدا مؤتمرا صحفيا وأعلنا أن ما وجداه في طبقات أرض بيسان الفلسطينية يدلل على: طبقة السطح الأثارية هي عربيّة إسلاميّة، وطبقة العمق كنعانية عربيّة، ولا دلائل على وجود أي صلة لمرور عبري في هذه الأرض كما يدّعي التوراتيون.
كان المؤرخ الدكتور شوقي شعث، الفلسطيني، مديرا لمتحف آثار حلب ولقلعة حلب، فدعا عددا من المؤرخين العرب والعالميين للمشاركة في ندوة عقدتها جامعة حلب عام 1981 من بينهم العالمان الهولنديان في حلب، وصدر عن الندوة مجلدان يحويان كل ما طرح في أيامها، وهما غنيان بأبحاثهما.
في تلّة عين السلطان، اريحا القديمة، بيوت طينيّة تغمرها الأتربة ولكنها واضحة بجدرانها رغم تقادم الأزمنة عليها، ولأن الموقع كان يخضع للاحتلال، فقد غُرست لوحات تقول: تأسست أريحا القديمة قبل 12ألف سنة..وفي الألف الثاني قبل الميلاد دخلها يوشع بن نون!
ادعاء وتفاهة وانتحال وتزوير للتاريخ، ومع ذلك لا بُدّ من الأسئلة: من أسسها؟ ومن الذين عاشوا فيها كل تلك القرون؟ ومن أين جاء ذلك اليوشع؟ ولماذا أحرقها وأهلها وحيواناتها واحتفظ بأواني الفضّة والنحاس؟ وأي عقلية هي عقلية أولئك الغزاة الذين يستبيحون وينهبون ما يبنيه الآخرون، ويعاقبونهم على تحضرهم؟ ثمّ: لماذا ينتحلون تاريخا مزورا ويبنون عليه؟!
طبعا كل ما تدّعيه التوراة لا حقائق تثبته في الأرض، وهذا ما أثبته مؤرخون غربيون تميزوا بنزاهة العقل والضمير أتكاء على ما تفصح عنه الأرض من آثار تركها أقوام ينتمون للأرض، لا من يدّعون.
في هذه الأيام يقاتل شباب أريحا، ويبرز مخيم عقبة جبر جار أريحا، ويواجهون الاحتلال بما يتوفّر لهم من وسائل مقاومة، ويضيفون لمقاومة شعبهم العربي الفلسطيني العريق.
تصنيف أريحا القديمة، وموقعها، وتلّة عين السلطان، موقعا حضاريا إنسانيا فيه شئ من الإنصاف، ولكن من يعيد لأريحا حقائقها الحضارية هي مقاومة عرب فلسطين، فهم الامتداد الحي للتاريخ ، لتراب وماء ونخيل أريحا ولعظمة ما خلّفه أسلافنا في عُمق أرضنا، وهو تراث يخّص البشرية كلها، ونحن عرب فلسطين الأوفياء لصونه وتحريره ثقافيا وتاريخيّا وحضاريّا …