حرب الاستنزاف الفلسطينية – د. لبيب قمحاوي
تخوض “اسرائيل” حرباَ تدميرية اجرامية ضد حماس وإقليم غزة الفلسطيني، في حين تخوض حماس بالمقابل حَرْبَ استنزافٍ بارعةٍ ذكيةٍ وقاسيةٍ ضد كيان “اسرائيلي” مأزوم يسعى إلى الوصول لأهدافه بأسرع ما يمكن وبأي وسيلة مهما كان ثمن ذلك على الفلسطينيين من قتلٍ وتدميرٍمعتمداً على المباركة المستمرة والرعاية المفتوحة لهذا العدوان المجنون من قبل الولايات المتحدة التي أصبحت تتصرف كرجلٍ عاجزٍ يقوده إبن مجنون يتصرف على هواه وكيفما شاء .
هزيمة “اسرائيل” الحقيقية سوف تكون من خلال وقوعها في فخ حرب الاستنزاف . فإعلان “اسرائيل” المتكرر والمَوْتور بأن هدف الحرب يتمثل بالقضاء على حماس بشكل نهائي أوقعها في فخ الاطالة بمعنى التواجد العسكري طويل المدى على أرض إقليم غزة الملتهبة، والتمدد فيه زمنياً إلى الحد الذي يُمَكنَّها من تصفية حماس بشرياً وعسكرياً،أو هكذا تأمل، وهذا يعني بالضرورة حتمية انكشاف قواتها لوقت طويل وتلاحمها المباشر مع عناصر المقاومة الفلسطينية، وهنا يكمن الفخ . فالقوات “الاسرائيلية” البرية تقع ضمن مرمى المقاومة الفلسطينية، والانسحاب لتفادي ذلك هو إقرار بالهزيمة . ومن هنا تتم عملية استنزاف مباشر ومتواصل من قبل حماس للقوات “الاسرائيلية” الموجودة على ارض المعركة . فبعد أن إعتاد “الاسرائيليون” على القيام بما يريدون من مذابح للبشر وتدمير للمؤسسات والمباني عن بعد ودون الالتحام المباشر مع المقاومة معتقدين أن تلك هي الحرب ووسيلة الانتصار المزعوم، إنقلبت الأمور وأصبحت الحرب عبارة عن مواجهة يومية شرسة بعد أن كانت عن بعد وعلى شكل قصف تدميري إنتقائي من الجو .
لقد أصبح واضحاً بعد مرور ما يزيد عن شهر ونصف على بدء الحرب أن اسرائيل تخوض هذه الحرب عن بعد برؤية دموية وبوحشية نادرة تعكس إمكاناتها العسكرية الهائلة والتي توفرها لها أمريكا . ومع كل ذلك، وفي حين أن البعض يعتقد أن “اسرائيل” بإمكاناتها تلك تقوم بقيادة الحرب وتوجيهها كما تريد، فإن واقع الحال يشير إلى أن حماس هي التي تقوم بالفعل بقيادة تلك الحرب وتوجيه مسارها سواء من خلال الانخراط النشط أو الابتعاد المدروس أوالاختفاء الصامت وإلى الحد الذي سوف يؤدي بالنتيجة إلى هزيمة “اسرائيل” في أكثر من مجال أهمها قد يكون من خلال عدم تمكين “اسرائيل” من الوصول إلى أهدافها المعلنة، وأسرعها قد يكون الهزيمة الاعلامية والأخلاقية ل “اسرائيل” على مستوى العالم والتي أوقعها بها الاجرام “الاسرائيلي” والتضحيات الفلسطينية التي فاقت كل تصور، وقد قامت وسائل السوشال ميديا في جميع أنحاء العالم بدور ملحوظ في تغطية تلك الحرب الاجرامية .
الأرض الفلسطينية التي يقيم عليها الكيان الاسرائيلي دولته والتي تحتوي مُدُناً مثل تل أبيب والرملة واللد وحيفا وايلات لم تعد بمنأى عن صواريخ المقاومة الفلسطينية ولم تعد بالتالي قادرة على الاحساس بالأمن والأمان الذي كانت تشعر به سابقاً، مما وضع سكانها في وضع مشابه لوضع سكان المدن الفلسطينية . إطلاق صفارات الانذار لم يعد حدثاً طارئاً في المدن “الاسرائيلية” بل أصبح حدثاً يومياً مما يضع أولئك “الاسرائيليين” تحت نفس الضغوط والشعور بالرعب وشلل الحياة اليومية واحتمالية الموت في أي لحظة، تماماً مثل تلك الضغوط التي يعيشها الفلسطينيون بإستمرار . وهكذا، فإن المساواة في الخوف والرعب تضع “الاسرائيليين” في مواجهة الحقيقة المرَّة بأن الاحتلال ليس سمناً وعسلاً ومغانماً “للإسرائيليين” فقط، بل إنه كذلك طريقاً يؤدي إلى الآلام والعذاب والموت تماماً كما هو حال الفلسطينيين وما يعانوه على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنين . وهكذا، فإن صعود وتبلور مفهوم المقاومة الفلسطينية المتطورة و المتمكنة من ناصية التكنولوجيا الحديثة خصوصاً في علم الصواريخ وبإمكانات بسيطة وعلى الرغم من الحصار “الاسرائيلي” لسنوات طويلة، قد أدى عملياً إلى سقوط مفهوم الاحتلال الهادئ َووَضَعَ “الاسرائيلي” المحتل في نفس موقع المعاناة التي يقاسيها الفلسطينيون تحت الاحتلال . هذا بالإضافة إلى أن المقاومة بصواريخها قد أجبرت “الاسرائيليين” على الهجرة من بيوتهم واخلاء مدنهم في غلاف غزة وكذلك في المناطق المحاذية للشريط الحدودي في جنوب لبنان مما أذاق “الاسرائيليين” مرارة طعم اللجوء الذي عاني ويعاني منه الفلسطييون. وهكذا فإن المساواة في الآلام يعتبر أحد الانجازات الهامة لحرب غزة الأخيرة وبداية الوعي “الاسرائيلي” الشعبي لخطورة مسار الاحتلال والاصرار عليه وكذلك خطورة مسار التمييز العنصري ضد الفلسطينيين .
إن عدم قدرة “اسرائيل” على هزيمة حماس أو تحرير الرهائن “الاسرائيليين” بالقوَّة، تجعلها غير قادرة على الموافقة على وقف إطلاق النار لأن ذلك سيكون بمثابة هزيمة فعلية ل “اسرائيل” حتى دون الاقرار بذلك . ومن هنا نرى عدم اهتمام حماس بالحديث عن مستقبل إقليم غزة بعد وقف العمليات العسكرية . فحماس تعلم أنها ستكون موجودة بعد انتهاء الحرب سواء فوق الأرض أو تحت الأرض أو في ثنايا الشعب الفلسطيني . ومن هنا يأتي عزوف العرب وغير العرب على تولي مسؤولية القطاع في المستقبل، والشك في قدرة السلطة الفلسطينية على القيام بذلك. وفي النهاية، ومهما كان عنوان المرحلة القادمة، فإن “اسرائيل” لن تنتصر لأن حماس لن تنهزم والحل الحقيقي لهذه المعضلة والمتمثل بإنهاء الاحتلال ما زال بعيداً عن التفكير”الاسرائيلي”.
“اسرائيل” تريد القضاء على حماس معتبرة أن ذلك يعني القضاء على المقاومة للاحتلال . وفي هذا السياق يبدو أن “اسرائيل” غافلة عن الحقيقة الأهم وهي أن وجود الاحتلال هو الذي يخلق المقاومة وليس وجود حماس . طالما وُجدَ هنالك احتلال، فالمقاومة سوف توجد أيضاً، سواء مع حماس أو بدونها، كون واقع الاحتلال هو الذي يخلق المقاومة . وهنا يكمن افتقار الاحتلال “الاسرائيلي” إلى الرؤية السليمة طالما أنه يعتقد أن المقاومة سوف تختفي إذا ما تم القضاء على حماس، في حين أن المقاومة سوف تختفي فقط إذا زال الاحتلال .
حرب غزة الأخيرة تعطي “الاسرائيليين” مؤشراً حقيقياً على أن قتالهم للفلسطينيين يختلف عن قتالهم لغير الفلسطينيين . فالفلسطيني يقاتل بشراسة دفاعاً عن أرضه ووطنه والحقوق الوطنية له ولأولاده وأحفاده، ويقاتل ضد جبروت وإجرام قوات الاحتلال والاستيطان “الاسرائيلية”. فهذا الصراع الوجودي هو نتاج الاحتلال “الاسرائيلي” وسياساته الاستيطانية الاقصائية التي لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، وعلى “اسرائيل” بالتالي أن تدفع ثمن ذلك طالما بقي الاحتلال .
وأخيراً، فإن الخارطة السياسية داخل “اسرائيل” لن تعود بعد وقف الحرب كما كانت عليه قبل بدايتها . فنتنياهو سوف يختفي من الحياة السياسية ومعه العديد من أحزاب اليمين المتطرف تماماً كما إختفت جولدا مائير بعد حرب 1973 ومعها حزب الماباي الذين ساهما في تأسيس الكيان الصهيوني، ولكن ذلك لم يشفع لهما .
23-11-2023 |