تحفة “نابليون”/2023/ الغير متكاملة! – مهند النابلسي
*قدرة المخرج ريدلي سكوت التي لا مثيل لها على تقديم عرض سينمائي مترامي الأطراف تصل إلى ذروة جديدة… باعتبارها ملحمة تاريخية شاملة، فهي مرضية للغاية، وغالبًا ما تكون ترفيهًا آسرًا يستمر دقيقة بدقيقة عبر وقت تشغيل وانتقالات سلسة ما بين المعارك الطاحنة والمؤامرات وحكايا الغرام المتواصلة مع جوزفين مما يختبر مجازا “قدرة المثانة” على التحمل بلا انقطاع لكي لا يتم تفويت مشاهد كما حدث معي شخصيا في قاعة العرض؟ لكني بالحق فقد انبهرت بالشريط!
*تفاصيل الحقيقة التاريخية ملعونة: يجب رؤية هذه المغامرة الجبارة على أكبر شاشة ممكنة. لتذوقها بحذافيرها والاستمتاع بمكوناتها القتالية والغرامية…وقد كان منظر اعدام الملكة أنطوانيت بالمقصلة في مشهد الاستهلال مذهلا ،ناهيك عن مشاهد المعارك الآسرة تقنيا مع فحوى التفاصيل وتحريك الخيول والمجاميع والالتحامات القتالية بلامؤثرات خاصة مشتتة…
*يبدع فينيكس هنا وكأنه كان ينتظر هذا الدور بلهفة من بداية مشواره المهني:
*يجسد رجل دولة كبير غاضب في هوليوود “خواكين فينيكس” دور بونابرت عن طريق “مونتي بايثون”، لكن الفيلم يفتقر إلى الوضوح في نهاية المطاف كما يدخلنا في متاهات ويتركنا مشدوهين ومجذوبين تتملكنا الدهشة ونتعطش للفضول لمعرفة المزيد من التفاصيل؟.
*إن بصيص الغضب الهزلي والمساعدات السخية لمذبحة ساحة المعركة، على الرغم من كونها مسلية بشكل غير مكتمل في حد ذاتها، لكنها لا تقدم أبدًا سبب متماسك للمغزى حيث ثبت بأن فينيكس “كممثل تقمصي مدهش” بطبيعة فريدة مختلفة هو سبب كافٍ.لمتابعتها على الشاشة؟
*يحاول قدر المستطاع أن يصور التعقيدات السياسية لعلاقتهما الغرامية المضطربة وكيف تم التضحية بها بسبب الحاجة إلى وريث، كما يقول سكوت بوضوح بدلاً من أن يظهر خفايا العشق الاسطوري. فكلها بدت كاستراتيجيات، لا تكتيكات وعلينا أن نصبر لتأملها بصبر واعجاب!…
*من المحتمل أن ريدلي سكوت لم يسمع قط عن بعض الثيمات الخاصة والعامة والتاريخية عن هذا القائد الاسطوري، لكن فيلمه الجديد مهيأ تمامًا للعيش من خلالها. وسيكون من الأفضل استهلاكها بهذه الطريقة “المفصلة حسب القياس السردي” بدلاً من استهلاكها بالكامل!.
*يتم تقليص حجم “نابليون” من خلال تقطيعه إلى أجزاء وتحويله إلى نسخة أصغر من نفسه بحيث لا يقول إلا أقل مما تم إنشاؤه ليقوله. حيث يفتقد الكثير منه لإمكاناته المحتملة… وينتهي الأمر بالشعور وكأنه ليس لديهم الكثير ليقولوه على أي حال…وهذا تماما ما أعجبني في الشريط فقد ركز على خفايا الشخصية وعلاقات نابليون المتواترة مع جوزفين كمحور لأحداث الفيلم!
*يظهر ريدلي سكوت أن الإمبراطور لا يرتدي ملابس أحيانا في نابليون، وهي بالحق ملحمة مضحكة ماكرة تحتوي على مشاهد شجاعة ووقت تشغيل مقسم بتوازن مدروس يمنعها من الغزو التام والاستفحال بلا حدود، مع تجاهل مقصود ربما لكم كبير من المعارك والحقائق!
*على موقع مجمع المراجعة Rotten Tomatoes، كانت 60% من آراء 174 نقادًا إيجابية، بمتوسط تقييم 6.3/10. يقول إجماع الموقع: “ريدلي سكوت عازم على إثبات أن الإمبراطور لا يرتدي ملابس في نابليون (مقولة مجازية غامضة)، وهي ملحمة مضحكة وماكرة مع قطع ثابتة شجاعة يمنعها وقت تشغيلها المقسم باتزان من الغزو التام وقد حصل الفيلم في تصنيف ميتاكريتيك على 64 من أصل 100، بناءً على 56 ناقدا، مما يشير إلى التقييمات “الإيجابية بشكل عام”. أما الجماهير التي تم استطلاع رأيها بواسطة CinemaScore فقد أعطت الفيلم درجة متوسطة من “B−” على مقياس A+ إلى F، في حين أن أولئك الذين تم استطلاع رأيهم بواسطة PostTrak أعطوه درجة إيجابية إجمالية بنسبة 74%، حيث قال 47% إنهم سيوصون بالفيلم بالتأكيد. وانا أعطيته 80% وأكثر كعمل سينمائي بحت بعيدا عن المصداقية التاريخية؟…
*في صحيفة صنداي تايمز، انتقد المؤرخ أندرو روبرتس الجوانب التاريخية للفيلم، ولا سيما تصوير نابليون على أنه هتلر أولي، وهي وجهة نظر وصفها بأنها “متعبة بقدر ما هي سخيفة” لكني لم الاحظ ذلك شخصيا بل بدى لي شخصا قياديا متكهما وربما مغرورا نوعا ما تحكم بمصير اوروبا وصولا للشرق وفلسطين ومصر، وقد أدت جملة معاركه لمقتل ثلاثة ملايين شخص بلا جدوى سوى المجد الشخصي (النرجسي) والرغبة بتخليد الذات أولا وفرنسا ثانيا؟. وبصراحة لم افهم سر تقدير النقاد الكبير لفيلمي “اوبنهايمر وقتلة زهرة القمر” بالمقارنة مع هذا الشريط التاريخي المدهش الذي نال اعجابي بجدارة بل وانبهرت به!
*تلقى الفيلم آراء إيجابية بشكل عام من النقاد، مع الثناء على مشاهد المعارك وعروضها المذهلة في اوروبا وروسيا، على الرغم من أن الاستقبال في فرنسا كان أكثر سلبية بسبب عدم الدقة التاريخية للفيلم. (ويبدو جزء من ذلك موضحا في الهوامش حول غزوه للشرق اسفل المقال والذي اختصره الشريط بمشهدين تقريبا متجنبا معظم التفاصيل الحربية لحملته الكبيرة التي انتهت بهزيمته متكبدا خسائر جسيمة وخيبة كبيرة)؟
*مراجعة “نابليون”: يبدو لنا كرجل صغير متكتل وغاضب وعاشق ولهان لجوزيفين ،مع شبه تجاهل لسماته القيادية والعسكرية ومعالم الخبث والدهاء والمكر في شخصيته الفذة الانتهازية كما لم نعرف سر مهاراته العسكرية الفذة التي اوصلته لهذا المستوى الرفيع بل شاهدناه كمتوحد يسد اذنيه لمنع تسرب ضجيج القذائف
*من المؤكد أن “نابليون” أفضل من الصور الأخرى للشخصية الشهيرة. إنه فيلم كان من الممكن أن يركز بشكل أكبر على الحياة العائلية المضطربة بشكل رائع ويغوص أكثر في البعد النفسي على حساب الشخصية التاريخية لكن بدلاً من ذلك، تأخذ ملحمة سكوت نفس الاسم وتختار شيئًا غير متناسق وخاص.وتقدم لنا شذرات متفرقة من حياة نابليون في انتقال سلس ومتناسق وعضوي ، لكنه يغفل بالحق عن الكثير من المعالم اللافتة لتاريخ الشخصية: ويكفي انه اختصر حملة الشرق ومصر وفلسطين بمشهدين هزيلين منقوصين!
*جواكين فينيكس يتحدث لجوزفين “كالعاشق الخائف” “الضعيف الشخصية”وينسى أحيانا أنه قائد فذ وعليه أن يتصرف بطريقة مختلفة ،وهذا مؤشر لطبيعة شخصيته اللامبالية؟
*”لقد أثارت بالتأكيد” هذه النقطة المخرج الانجليزي الشهير والمتعلقة : بفحوى حكايات رسائل حب نابليون إلى جوزفين عن فكرة فيلم جديد مما أطلق المشروع بلا تردد…ومنذ بداية تعرفه عليها ووقوعه السحري بعشقها، ونلاحظ في احدى اللقطات انبهاره “المغناطيسي” بجمال جسدها عندما تعرض عليه تفاصيله كما تخترقه بنظراتها الجميلة المعبرة؟
*أخيرا يتصدر خواكين فينيكس المسؤولية في ملحمة ريدلي سكوت الغريبة حيث أثبت انه ممثل عبقري موهوب وربما منسي، لكنه بالتأكيد لم يتعمق ومخرجه ولا كاتب السيناريو بمعالم شخصية نابليون ،التي قضى المخرج الشهير كوبريك سنوات لكي يتقصى معالمها!
*هوامش تؤكد عدم تعمق السيناريو وتجاهل الحقائق التاريخية:
1*كان “الفرنساوية يزجرونهم زجر الغنم، ولم يزل هول الحرب في إمداد، والكرب في اشتداد، وتتناثر الرؤوس، وتهلك النفوس، ويُقتل الرجال والنساء والأطفال، وكنتَ تنظرُ واحدا يُقتل، وواحدا جديلا، وآخر دمه يسيل، والآخر بالأسر ذليل.. وفي ذلك الحين مات من العساكر ما ينيف عن الخمسة آلاف، ومن أهالي البلد ألفين، وأصبحت مدينة يافا لم يجد بها أحدا معافى، ولا بها مستترا
(المؤرخ “نقولا الترك” في وصفه للمجزرة المروعة التي ارتكبها نابليون في مدينة يافا) 2*صعد نجم نابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي الفذ الذي أدرك أهمية الشرق الأوسط وفي قلبه مصر والشام في صراع النفوذ العالمي بين إنجلترا وفرنسا، وأن التحرُّك للسيطرة على هذين الإقليمين أصبح ضرورة إستراتيجية فرنسية، فكيف استطاع نابليون احتلال مصر؟ وكيف تحطَّمت آماله عند أسوار عكا فأسقطته فلسطين كما أسقطت غيره من الطغاة والجبارين؟
3*تجمَّعت إذن المصلحة الشخصية لنابليون في طموحه للزعامة والخلود التاريخي مع طموحات فرنسا في السيطرة على الشرق، والتضييق على غريمهم اللدود بريطانيا، فانطلق على رأس الحملة الفرنسية التي تكوَّنت من 55 ألف جندي من القوات البرية والبحرية ونزلت إلى الإسكندرية في شهر يوليو/تموز عام 1798، وبعد مقاومة عنيفة تقدَّمت إلى الدلتا ومنها إلى معركة الأهرام الشهيرة في الجيزة حيث سُحِقت القوات المملوكية والعثمانية بسبب الفارق الواضح في التسليح والتقنيات العسكرية، أو كما يقول العلامة الجبرتي: “إن الطابور (الفرنسي) الذي تقدَّم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب، وتقاربَ من المتاريس بحيث صار محيطا بالعسكر (المملوكي المصري) مِن خلفه وأمامه، ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع”
4*بدأت القوات الفرنسية في التوغل في فلسطين التي كانت خاضعة للوالي أحمد باشا الجزار البوسني الأصل، وهو أحد المقربين آنذاك من شيخ البلد وزعيم المماليك في مصر علي بك الكبير (ت 1773)، وقد أثبت الجزار قوة وصلابة شديدة في مواجهة خصومه ودمويته تجاههم، ولُقِّب بـ “الجزار” لهذا السبب، وقد أدرك العثمانيون قوة الجزار وأنه يمكن الاعتماد عليه في بلاد الشام الجنوبية، فعيَّنوه واليا على جنوب الشام وفلسطين وعاصمتها عكا آنذاك. وكان الفرنسيون قد استطاعوا السيطرة على خان يونس ثم غزة، وفي 3 مارس/آذار 1799 تمكَّن نابليون وجيشه من دُخول يافا والاستيلاء عليها، وارتكب واحدة من أفظع الجرائم في تاريخ فرنسا في المشرق، إذ أنزل عقوبة الإعدام بحق آلاف الأسرى الذين استسلموا طائعين.
5*وفي 9 مايو/أيار 1799، وصلت مساعدات مادية وعينية من إسطنبول أدَّت إلى ارتفاع معنويات المحاصرين في عكا، كما أدَّت إلى اشتداد المقاومة والاستنزاف المعنوي والمادي للعدو الفرنسي، وقد سقط خلال تلك المواجهات العشرات من جنود نابليون فضلا عن كبار الضباط والمخططين الإستراتيجيين للحروب وعلى رأسهم الجنرال “كفاريلي”.
6*واللافت أن “الجنرال كفاريلي” لم يكن أهم قتيل فرنسي يسقط في تلك المعركة، بل سقط معه أحد أهم الجنرالات الآخرين المُقرَّبين من نابليون وهو “الجنرال بون” الذي سقط عليه حجر فأرداه من وقته صريعا، وهذا الجنرال كان صاحب فكرة ضرب الفرنسيين للأزهر بالمدافع، ودخوله بالخيول، وتحويله إلى إسطبلات بعد انتفاضة الأزاهرة ضد الاحتلال الفرنسي وجرائمه في مصر قبل ذلك ببضعة أشهر، ويُخبرنا نقولا الترك الشاهد على هذه المعركة، والمؤيد لنابليون ورجاله، عن بسالة المقاومة الفلسطينية لأهالي عكا وجنودها الذين كانوا يطلقون على الفرنسيين “الرصاص مثل سيل الأمطار، ويرمونهم أيضا من الأسطح بالحجار الكبار”[13].
7*بعد شهرين كاملين من الحصار والمقاومة الشرسة، والإمدادات العثمانية والبريطانية التي لم تتوقَّف، وبعد انقطاع المدد البحري بين مصر وعكا، وسيطرة الإنجليز على ثلاث من السفن الفرنسية القادمة لنجدة نابليون وإمداده، وبالتزامن مع مجيء أخبار بإعداد الدولة العثمانية حملة بحرية ضخمة بقيادة “مصطفى كوسا باشا” لاسترداد مصر وطرد الفرنسيين منها، ومع وقوع مئات من القتلى والجرحى في حرارة شهر مايو/أيار ما أدَّى إلى انتشار الأمراض بين الجنود وعلى رأسها الطاعون، اضطر نابليون إلى إصدار قرار فوري بالانسحاب. ويقول نقولا الترك: “وأما أمير الجيوش (نابليون) حين نظر أن ليس في ذلك الحرب محصول، وأن الدخول إلى عكا بعيد الوصول، وقد فهم أن الصلدات (الجنود) صاروا ينفرون من الهجوم والمصادرة، ويطلبون الرجوع إلى القاهرة، وأنه قد مات ثلاثة آلاف وخمسمئة من الصلدات على أسوار عكا، ومات في الطاعون وعلى الطرقات ما ينيف عن ألف منهم، فإنه أصدر أوامره بالانسحاب
8*في النهاية، قرَّر نابليون في مايو/أيار 1799 العودة إلى القاهرة، ومنها الرجوع إلى باريس التي بدأت أحوالها السياسية تتغير، وأخذت تُحاك فيها مؤامرة ضده، فضلا عن اتحاد دول أوروبا كألمانيا والنمسا وبريطانيا ضد بلاده، وهكذا كسرت فلسطين أحلام نابليون الإمبراطورية في الشرق، قبل أن تهزمه معركة “واترلو” قُرب بروكسل في بلجيكا سنة 1815، ليُؤسَر ويُنفَى إلى جزيرة “سانت هيلينا” النائية في المحيط الأطلسي، تلك الجزيرة التي لقي فيها حتفه عام 1821 وهو في الحادية والخمسين من عُمره.
*المرجع من جوجل: محمد شعبان أيوب عن 14 مصدرا تاريخيا موثوقا: