اليمن: جبال يشبهها أهلها ونفوس رقيقة كحّد السيف – رشاد أبوشاور
اليمن!
هل عرفته؟ قليلاً، رغم زياراتي الكثيرة في زمن مضى، شمالاً و..جنوبا، ومرّة واحدة سافرت برّا عبر تضاريسه التي أصابتني بالذهول، وجعلتني أغرق في الصمت وأنا أشدّ عنقي إلى أقصى ما أستطيع لبلوغ قمم جباله الغارقة في فضاء شاهق بنظري..وأصاب بالدهشة وأنا في حالة الذهول وعيني وأسئلتي منبهرة بما أراه: بيت واحد في القمة البعيدة في الفضاء التي تندمج بعمق مع السماء: كيف تعيش هناك أسرة واحدة؟ من أين تتدبر طعامها وماءها؟
إنهم اليمنيون عشّاق الحريّة والكرامة والذين لا يتنازلون عن قيم حياتهم المتوارثة أجيالاً بعد أجيال..ولهذا عجزت إمبراطوريات عن احتلال بلادهم، واندحرت مهزومة.
زرت الجنوب كثيرا، والشمال ثلاث مرّات، وكانت تلك الزيارة هي الأخيرة، وهي لا تنسى، فلأوّل مرة أتجوّل برّا، ولم أكن وحدي، في (ربوع) اليمن جنوبا وشمالاً، وألتقي بجباله المذهلة الجافة..وأتعرّف بإنسانه الذي له صفات من طبيعة وطنه، ولوطنه صفات من عمق روح إنسانه، وعبر العصور تلاقحت الصفات واندمجت وتناسلت.
اليمنيون لديهم ما يقدمونه لضيوفهم أكثر من الطعام:
عام 1979 عقد مؤتمر الكتاب والأدباء العرب في دمشق، وتمت الاستضافة في فندق المريديان، وتلاحقت الجلسات في قاعة مسرح العمّال الذي اعتاد الفنان دريد لحام ورفيق رحلته نهاد قلعي، ونخبة من نجوم المسرح السوري الذين تألقوا وقدّموا على خشبته مسرحيات لا تنسى، والتي تستحق ما حققته من شهرة، وقدموا روائعهم على خشبته، والتي حرصت على مشاهدتها: كاسك يا وطن، غربة، ضيعة تشرين…
طرح الوفد اليمني رغبته في استضافة مؤتمر الاتحاد القادم، فرحبت بعض الوفد، وصمتت بعضها، ربما لبعد اليمن، وللجهل بمعرفة ظروف الحياة فيه.
وقفت أنا باسم وفد فلسطين ورحبت باقتراح الوفد اليمني، كرئيس لوفد فلسطين، وقلت: هذه فرصة للتعرّف باليمن بالمشاهدة، و..و أحق أن نتعرف به قبل باريس ولندن وروما..تلك التي يعرفها بعضنا ويحرص على التردد عليها، ويباهي بأنه زارها رغم الثارات بيننا كعرب وبينها!.
عندما حلست مال رئيس أحد الوفود العربية – لن اذكر اسمه، أو الوفد الذي يمثله_ وتساءل باستخفاف: هل لدى اليمنيين طعام نشاركهم فيه؟!
رددت عليه بصوت سمعه رؤساء الوفود على المنصة: لديهم ما هو أهم من الطعام في دول الغرب التي يحرص بعضنا على التردد على عواصمه والتباهي بزيارتها، وهي عواصم بلاد استعمارية طالما نكلت بنا، وشوهت تراثنا، ونهبت خيرات بلادنا.
وانعقد المؤتمر في عدن وصنعاء:
تأخر انعقاد المؤتمر في اليمن لأسباب منها الحرب على لبنان والمقاومة الفلسطينية، وانعقد عام 1983، و..لكننا زرنا اليمن، واستمتعنا بالكرم اليمني بداية في عدن جنوبا..ثم صنعاء شمالاً، وسررنا أننا سنسافر من عدن إلى صنعاء برّا، وهذا ما كان، والطريق طويل، والتضاريس مذهلة، وكلما مضت القافة الممتدة على الطريق رددنا: لا بدّ من صنعاء وإن طال السفر، و..توقفت القافلة وتفجرت الأسئلة التي تعبّر عن الدهشة: ما هذه الطبيعة؟ وأذكر أن أحد الأصدقاء طرح السؤال، فكان جوابي: كأننا على سطح القمر..واليمن شاهق ومضئ!.
كّل شئ جاف قاس مخيف..ولكنني عرفت في زياراتي الكثيرة للجنوب أن الوديان وهي التي تسفر عن وجه مكمّل يتكشف عن الخصب، وستفاجأ باليمنيين وهم يشمرون وينهمكون في زراعة حقولهم الخضراء، ومن عمق وديانهم يتصاعد غناء يفيض منه شجن وحنين بعيد، والغناء اليمني لا شبيه له في الغناء العربي، فهو أميل للتأمل، وهو مهدهد للحزن، وحنين للحب..والحبيب، طافح بالكبرياء واللوعة، ومسيلات المياه الفضية النقية والنسمات الرقيقة تؤجج مشاعر اليمني، وهو كإنسان تمتد نفسه بين المياه الرقراقة في عمق الوديان الخصبة..والقمم التي تعانق السماء والتي تبدو كأنها تسند السماء على أكتافها..فيا سبحان الله!.
بتنا ليلة في منصف الطريق بين عدن وصنعاء، سهرنا وغنينا مع اليمنيين، واستمتعنا بطعامهم الخاص اللذيذ..ثمّ واصلنا السفر إلى صنعاء، ونحن نمعن في الدهشة والذهول، ولكننا نتيقن أن اليمن ما كان لأي دولة أن تحتله وتستعمره وتستبيح وتذّل أهله.
ثمّ التقينا بصنعاء:
وصنعاء عالية، والأوكسجين قليل..ولذا تنفسنا بصعوبة، واستيقظنا من عّز النوم، ومن أنوف بعضنا سال الدم..ورأينا مضيفينا اليمنيين يبتسمون وهم يرددون: لا تقلقوا..ستعتادون بسرعة على نقص الأُكسجين..وهذا ما كان.
زيارة مقبرة شهداء الجيش المصري في صنعاء:
كنت معنيا بزيارة مقبرة شهداء الجش المصري الذي أمر الرئيس جمال عبد الناصر بتوجهه إلى اليمن للدفاع عنه في وجه التآمر السعودي على الثورة اليمنية التي انفجرت بقيادة العميد عبد الله السلاّل وبعض الضباط..وأنهت حكم ( آل حميد الدين)، وأخرجت اليمن من الظلمات إلى النور..وللتذكير انفجرت الثورة عام 1962 وكأنها ردّ على انفصال سورية عن مصر وفك أوّل وحدة عربية في العصر الحديث!.
كان حاكم اليمن آنذاك ( الإمام) أحمد حميد الدين، وكان يأمر يوميا بإغلاق أبواب صنعاء وإحضار المفاتيح لتوضع عنده في القصر و..فجر اليوم التالي تحمل المفاتيح وتفتح الأبواب، و..كان من يتأخر عن الوصول إلى صنعاء قبل غياب الشمس ينام تحت الأسوار حتى الفجر..وهذه المعلومة تكفي لمعرفة كيف كان اليمن يُحكم وتدار أموره..ولماذا غاص اليمن في زمن وصف بالعصر الحجري!.
(السعودية) كانت مرتاحة لحكم آل حميد الدين، ولذا بدأت بجمع المرتزقة من كل أنحاء العالم والدفع بهم لمقاتلة جيش اليمن المحتاج لكل شئ للدفاع عن وطنه..وبخاصة أن السعوديين اشتروا رؤساء بعض القبائل بالذهب، وحشدوا ألوف المرتزقة..واحتدمت المعارك الطاحنة حول صنعاء..وعندما غادر الجيش المصري اليمن ترك خلفه مقبرة في صنعاء تضم رفات شهداء الجيش المصري الذين سقطوا دفاعا عن حريّة وعروبة شعب اليمن.
رافقني صديق يمني إلى مقبرة شهداء جيش مصر الذين سقطوا في معارك الدفاع عن صنعاء، ووقفنا وتلونا الفاتحة وترحمنا عليهم وعلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي انقلب السادات على تراثه وتخلّى عن انتماء مصر ودورها القومي في كامب ديفد..وإذا برجل يمني ينادينا: لا تعدّوا القبور..فتوقفنا، وحين وصلنا وضّح السبب: في كل قبر يوجد أكثر من شهيد..ربما ثلاثة أربعة وأكثر، فقد كانوا يحضرون ليدُفنوا معا بسرعة، ففي هذه المقبرة يوجد أكثر من سبعة آلاف شهيد رحمهم الله، وهم الذين دفعوا أرواحهم لحماية صنعاء من مرتزقة السعودية..وبعض الطيارين كانوا يجلبونهم من الصهاينة لقصف القوات المدافعة عن صنعاء والتي حرمت المرتزقة من اختراق جبل شمسان الذي يحمي عاصمة بلادنا العزيزة.
أرسل القائد جمال عبد الناصر جيش مصر للدفاع عن ثورة اليمن عام 1962، لأنه كان يرى هو وإخوانه في ثورة 23يوليو أن هذا هو واجب ودور مصر في حماية الأمة وحقوقها وفي المقدمة حريتها.
أكان جمال عبد الناصر يرضى بأن يرى جيش مصر الحر وهو يتفرج على أطفال قطاع غزة يموتون جوعا، وجيش العدو يدفن الأمهات والأخوات والكهول والفتيان تحت الأبنية التي تدمر على رؤوسهم؟!
أكان ناصر يرضى بأن يتفرّج على أهل غزة الأبطال وهم يموتون جوعا، ومعبر رفح مغلق بينهم وبين مصر العروبة؟!
الأسئلة تفضح التعاجز_ ولا أقول العجز_ فالمتعاجزون يملكون القدرة على الفعل، ولكنهم يغلقون آذانهم وقلوبهم وعقولهم ولا يستجيبون لصيحات نساء غزّة البطلات استرضاء لأعداء الأمة الذين يبقونهم على الكراسي: وين العرب؟!
اليمن بقيادته الشابة الشجاعة الجسورة المؤمنة يجيب: نحن العرب.. لبيك يا غزّة، يا أخواتنا الغزيات..ويغلق باب المندب حتى ينتهي الحصار على قطاع غزّة، وينخرط في المعركة التي استعد لها، ومنع السفن التي تحمل كل ما يحتاجه الكيان الصهيوني من المرور عبر باب المندب..ثم يشتبك مع سفن وبوارج الإمبراطورية الأمريكية وتابعتها بريطانيا التي هزمها اليمنيون وكنسوها من بلادهم وهي لا تنسى لهم ما فعلوه بها!.
في اليمن شعب عظيم يراه العالم وهو يملأ شارع السبعين أسبوعيا بزحفه المليوني، متحديا أمريكا والكيان الصهيوني، رافعا أعلام فلسطين، محييا جيشه العربي اليمني الباسل، منحازا لقيادته الشابة، غير آبه بالقصف الأمريكي البريطاني..فاليمن يغلق البحر الأحمر وباب المندب في وجه السفن المتجهة للكيان الصهيوني عقابا لها على ما يقترفه الكيان الصهيوني المجرم بأهلنا في قطاع غزّة، ومؤكدا: لا إيقاف لقتالنا إلاّ بعد أن ينتهى العدوان على أهلنا في قطاع غزة ويفّك الحصار..وأمريكا لن تخيفنا بتهديداتها، فليس شعب اليمن من يخاف تهديد ووعيد أمريكا.
وعندما انحازت البحرية الأمريكية للدفاع عن الكيان الصهيوني وتابعتها بريطانيا، بدأ بقصف قواتهما في البحر الأحمر وبحر العرب..ولم يأبه بتهديدات رعاة الكيان الصهيوني، وها هو يخوض الحرب معهم بقواته البحرية، وبقيادته الشجاعة، وبشعبه الثائر العربي العظيم..وعندما ترتفع أصوات نساء القطاع: وين العرب؟ فمن يجيبها؟
أبطال المقاومة في جنوب لبنان، وجيش اليمن، ومن انحازوا لفلسطين فأخذوا يدكون القواعد الأمريكية في العراق وسورية العروبة الصامدة..بصواريخهم..وهؤلاء هم العرب..وليخزى المتخاذلون المستتبعون المتآمرون على فلسطين.
هؤلاء هم العرب، أما التابعون الأدوات الذين يحتمون بالقواعد الأمريكية، والذين لا تعنيهم نداءات العروبة فهم ليسوا لفلسطين، بل هم لا يسمعون، وهم في الحقيقة يدعمون الكيان الصهيوني في حربه على قطاع غزة وكل شعب فلسطين…
ترتفع صيحات سيدات فلسطين: وين العرب..فينتخي اليمن: لبيك يا فلسطين ..الموت لأمريكا الموت (لإسرائيل)..ونضيف معهم: الموت لعرب ماتت عروبتهم من زماااااان..وهم والصهاينة مصالح واحدة.
اليمن يوجد فيه طعام مختلف، وهذا لا يعرفه باعة النفط والغاز والحرصاء على كراسي حكمهم..لا على مجد أمة وحريتها.
السادس من مارس – آذار ٢٠٢٤