سنة على وفاة أمي … نضال حمد
1نوفمبر 2023 – 1 تشرين الثاني 2024 ….
سنة مرت على رحيل والدتي بعد عناء مع المرض وحياة حافلة بالأمومة.
في مثل ليلة الغد 31 اكتوبر 2023 وعند منتصفه مع نهاية شهر تشرين الأول – أكتوبر وبزوغ فجر الأول من نوفمبر- تشرين الثاني تركتنا الحجة وردة ومضت بعد أن ذبلت وماتت… هذا بعدما أكملت رسالتها فينا وحملت أمانة الوالد فكانت خير المؤتمنات والمؤتمنين .. وكانت من القليلات من جيل النكبة اللواتي لازلن حيات.
أذكر أمي كوالدة لم تترك لحظة من حياتها تمضي أو تفلت منها دون أن تقدمها لعائلتها ولأولادها. كانت تحرص على أن نكون أنيقين في لباسنا وحتى على تسريحة شعرنا… كانت تحب أن تبدي رأيها بنوعية عطورنا هذا بعدما كبرنا وصرنا آباء وأمهات.
كانت تحب العطور والزهور والزنابق والعنب التين وحاكورتنا الصغيرة، تعتني بها كما اعتنت بنا صغاراً واستمرت في معاملتنا كأطفال حتى بعدما أصبحنا كباراً.
أمي التي شاءت الأقدار أن تتعذب بسببي وبسبب قراراتي وافعالي الصبياني ففي بداية تكويني شقيت كثيراً معي وتغلبت وكادت تموت عدة مرات وهي تمضي للبحث عني في القواعد والمعسكرات وعلى جبهات القتال، في الجنوب اللبناني وفي بيروت أيام الحصار، ثم بعد المجزرة في مخيمي صبرا وشاتيلا وفي أعقاب الاحتلال ثم الاندحار عن بيروت فصيدا ومخيمنا عين الحلوة. في المستشفى بالجامعة الأمريكية وفي بيت جار العم ابو اسماعيل حمد (جميل الزين) في مخيم شاتيلا… وفي أمكنة كثيرة وعديدة.
ليس لأنها لأمي لكن لأنها الحقيقة … صدقوني لم أسمعها يوماً ما في حياتي تستغب أي كان. لم أسمع أمي (أم جمال) تستغيب شخصاً ما لا قريب ولا غريب ولا جار ولا غير جار …
كانت أمي (وردة على قاسم حمد) حبيبة جدتي المرحومة فاطمة أو بدرة اليوسف، الشاويشية من قذيتا جارة الصفصاف، كانت وردتنا أم جمال تحترم كل الناس وتعاملهم بأدب وإنصاف وتقدير، وكانت حنونة وتشفق على الفقراء والمساكين والمرضى والذين يحتاجون المساعدة، وكانت تقدمها لهم ولهن عن طيب خاطر وبدون تحميلهم جميلة أو التظاهر بأنها تساعد، كانت كالجندي المجهول تقوم بما يرضيها ويرضي ربها وضميرها.
لغاية الآن واليوم وبعد مرور سنة على وفاتها لم استطع الكتابة عنها كما أريد .. فكل ما كتبته لا يليق بها .. لم استطع الكتابة عنها بما يليق بها فعلاً… وهذا أيضاً يعذبني كثيراً. إذ لا أعرف لماذا تخونني الكلمات كلما أردت التوسع في الحديث عنها وعن أمومتها وتجربتها وجيرتها وسيرتها وطيبتها ومحبتها، فقد كانت صديقة للجميع ومحبة للجميع وتحترم الكل بلا تفرقة وبلا تفضيل بين هذه وتلك وبين هذا وذاك من الناس كل الناس.
أحبت عائلتها وأقاربها وحفظت صلة الرحم ولم تقطع زياراتها للأقارب حتى وهي مريضة وبعدما صارت تخونها قواها الجسدية. كانت امرأة هادئة وصامتة وصادقة وكانت قوية وذكية ولا تميل الى الشخصنة والذم بالناس والحط من قدر الآخرين.
كانت تمقت الذم والاستغابة ولا تحب الثرثرة والكلام الفارغ لمجرد الكلام والطعن بالبعض. كانت منصفة وعادلة وطيبة ومأمناً موثوقاً للجميع … وكانت والدة للأقارب الذين فقدوا أمهاتهم في رحلة الحياة جهد وعطاء وتربية وظروف صعبة وحروب وكفاح ومقاومة بالمخيمات وفي الشتات.
في مثل هذا اليوم كنت أحاول أن أحدثها كي تتحدث وهي تعاني من المرض ومن آخر أيام وربما ساعات العمر الذي امتد بها من الصفصاف ركن جبل الجرمق في الجليل حتى مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا العريقة في لبنان.
قالت كلمة واحدة “عالبيت” كانت بدها ترجع الى البيت في المخيم عين الحلوة وربما الى البيت في الصفصاف. لا أدري فالبيت في المخيم مثل البيت في الصفصاف، ولا بيت آخر غيرهما سوى القبر.
في تلك الليلة وكنا نعلم أنها تعيش آخر أيامها وربما آخر ساعاتها جاءنا خبر الوفاة عند منتصف الليل. ايقظني من النوم ابن شقيقتي الدكتور حمد، ليبلغني بوفاة جدته وردة، والدتي…توجهنا معاً الى المستشفى لنلتقي هناك بكل العائلة تقريباً… بكينا فوق راسها وبين يديها… وفي اليوم التالي كفناها وودعناها ودفناها في مقبرة المخيم.
كان شعوراً غريباً وحزيناً وأنا أرى والدتي توضع في القبر وتنهال فوق جسدها الأتربة وبعض الحجارة، كنت أتألم كلما سقط حجر أو انهال تراب فوقها.. بقيت أنظر في وجهها طويلاً إلى أن أيقظتني كلمات الشيخ مصطفى زوج شقيقتي ام ابراهيم، يطلب مني وداعها ..
لم أقل للشيخ أنني كنت أودعها على طريقتي وأنني لازلت أعيش في الصمدة.. لم أكن قد صحوت بعد من هول خسارتها، لكن الملحمة الأاسطورية لأهلنا ولشعبنا في غزة خففت من وقع الصدمة والضربة… فشعبنا هناك كان ولازال يموت بالجملة من أجل أمة نائمة مغيبة ومضللة وخارجة من دائرة الفعل، تحيا على كتاب تاريخي غير موثوق المصادر.. وداعا يما، يا يما الوداع.. وداعا يا أم جمال .. يا وردتنا ومحبتنا وعزتنا.
نضال حمد
موقع الصفصاف – وقفة عز
٣٠ تشرين الأول – أكتوبر ٢٠٢٤