الصهيل الثالث/ عبورٌ كالرّيح
الشاعر صلاح أبولاوي
مداخلتي حول رواية مصائد الرّياح للروائي الصديق ابراهيم نصرالله ضمن مجموعة أكثر من قراءة:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرّمح والقرطاس والقلم
لا أعلم لماذا قدّم الرّاوي العليم على لسان بطلة مصائد الرّياح لابراهيم نصرالله الليل على الخيل، مع أنه يعلم أنّ المتنبي قدّم الخيل على كلّ ما سواه في هذا البيت، وهل مصادفة أن يتمّ ترحيل (حِسّ) الحصان الذي سكن روح أحلام وسكنتْ روحه، ليلاً، ليكتمل المعنى المراد.
إجمالاً ليس هنا مربط الفرس، إنما هو استهلالٌ لما أحاول أن أقوله، وما أحاول أن أقوله هو أوّل ما خطر لي بمجرد انتهائي من قراءة هذه الرّواية المختلفة عن روايات الملهاة الفلسطينية، أو على الأقل ما قرأتُ منها.
إبراهيم نصرالله في صهيله الأوّل (الخيول على مشارف المدينة) 1980 كان يسترجع طفولته الحالمة بحصان، حصانٌ يخرجه من المخيّم، مخيم الوحدات، ويمضي به إليها، إلى فلسطين في حكايات أمّه وأبيه وجدّه، تماماً كما هبطت خيول الفاتحين من هذه المنحدرات لتعانق القدس.
قرأت هذه المجموعة بعد صدورها بسنة أو سنتين، ولا أتذكّر على وجه التحديد سوى عنوانها، لذا رجعت للنت لمحاولة استذكار قصائدها، وتفاجأت، هي غير موجودة، لكنني أظن أنها قد تكون مقدمة لمصائد الرّياح، وأنّ هذه الرّحلة الإبداعية الطويلة لم تمح من ذاكرة إبراهيم نصرالله حلم طفولته، لأن يكون فارس هذا الزمان، وأنّ حصانه لا يزال يصهل في روحه، لماذا اقول ذلك؟
لأنه يقول في صهيله الثالث، مصائد الرّياح، أنه يسكن كل إنسانٍ حصان، ويسكن كلّ حصان إنسان، ولأن كلمة حصان ومرادفاتها تكررت في أعمال ابراهيم نصرالله كثيراً، سواء في الأعمال الشعرية، أم في الأعمال الروائية، بدليل أنّ صهيله الثاني، زمن الخيول البيضاء، كان استكمالاً،أو حلقة وصلٍ بين صهيلين، ولا بدّ من الإشارة أن ترتيبي للهصيل من الأوّل للثالث، لا يعني تراتبية الصدور للأعمال، بل هناك أعمال كثيرة بين كلّ صهيل واخر، وفي تلك الأعمال أيضاً كان ثمة صهيل أخفّ حدّة، فقد كانت الخيول على سبيل المثال لا الحصر حاضرة بقوّة في قناديل ملك الجليل.
زمن الخيول البيضاء، الإلياذة الفلسطينية كما أطلقتْ عليها الأديبة والمترجمة المرحومة سلمى الخضرا الجيوسي، أضاءت على خيول فلسطين قبل الاحتلال، في فترة تمتدّ من أواخر العهد العثماني، مروراً بالاستعمار الإنجليزي، إلى عام 1948 عام الاقتلاع، ومن الطبيعي أنّ برق وسماء والجدّ والضابط الإنجليزي كانوا في تلك الرواية، ولكن مساحة اللوحة لم تتسع لهم، فعاد لهم الكاتب في مصائد الرّياح استكمالاً لقصة لم تكتمل، ولن تكتمل قبل تحرير فلسطين، واستكمالاً لمشروع الملهاة الفلسطينية والتي بلغت ثلاث عشرة رواية ومازالت مستمرة، وليست مصائد الرّياح إلا لوحة من لوحاتها.
مصائد الرّياح مختلفة، إذْ إنها تنطلق من الخارج للداخل، عكس الرّوايات السابقة التي كانت جميعها فيما أظن تدور أحداثها في داخل فلسطين، وهي تسرد أنموذجاً للفلسطيني المهاجر من منفاه إلى منفى أبعد بحثاً عن العلم والعمل، وما تعمية إسم البطل في هذه الرواية إلا ليكون حالة جماعية وليست فردية، فكثيرون هم الفلسطينيون المبدعون الذين مرّوا بهذه التجربة، وكان لنضالهم الثقافي تأثيراً لا يقلّ عن البندقية أو الحجر، فقد راكموا المعرفةً بالقضية الفلسطينية لدى الشعوب الغربية، نرى بعض ارتداداتها اليوم، في الجامعات الأوروبية والأمريكية، وفي مواقف بعض الدول الغربية الرافضة للعدوان الوحشي على غزة ولبنان، وما الخيول في هذه الرواية، سابقها ولاحقها، إلا تأكيدٌ على أنّ هذا الصهيل لن ينتهي ما دامت فلسطين تقبع تحت نير هذا الوباء الصهيوني المتوحّش.
إنّ الرّاوي العليم في هذه الرّواية، وجَعْلِه أحد شخصيات الرّواية الرّئيسية، بل الشّخصية المطلقة، في سابقة نادرة لم تتكرر كثيراً في الروايات العربية والعالمية، إنما يدلّ على امتلاك الكاتب المحترف إبراهيم نصرالله قدرة هائلة على الإبداع ومفاجأة القارىء شكلاً ومضموناً في كلّ رواية، مما أعطاه هذا الزّخم من المعجبين والمتابعين، ويفسّر سرّ ترجمة الكثير من رواياته إلى عديد لغات العالم.
سأترك النقد لأصحابه، فأنا لا أكتب إلّا انطباعاتي الأولى بعد القراءة، لذا لن أغوص في تفاصيل الرّواية التي أذهلتني، ولا حبّي لبطلة المصائد، بحيث لو أنني تجرّأت بكتابة رواية ذات يوم، فسأكتبها عن فرسٍ جامحٍ غير مروّض، فرسٍ يصهل في البراري الحرّة، خارج أسوار العبودية، سأكتب عن أحلام.
03.12.2024