البحث عن الذَّات في ديوان “غيم على قافية الوحيد” للشَّاعر محمد لافي
الشاعر والروائي أحمد ابو سليم
لو كان يمكن أَن أُشبِّه الشِّعر بقنبلة، فإنَّ أَقرب تشبيه لديوان محمَّد لافي الأَخير، غيم على قافية الوحيد، والَّذي يُعدُّ الدِّيوان السَّابع له، الصَّادر مؤخَّراً عن الاتِّحاد العام للكتَّاب والأُدباء الفلسطينيِّين، أَقول، لكنتُ شبَّهته بالقنبلة العنقوديَّة، حيث تحوي القنبلة الأُمُّ آلاف القنابل الصَّغيرة، الَّتي تنتشر على مساحة واسعة، لتغطية أَكبر مساحة ممكنة من الهدف، ولو أَردنا تشبيه هذا الدِّيوان بالموسيقى، لكان علينا أَن نختار الكونشرتو الكبير، حيث تلعب مجموعة من الآلات أَدوار البطولة، بتناغم استثنائيٍّ، مع كلِّ ما يرافق هذا العمل من هارموني تقوم به مجموعة كبيرة من الآلات، رغم تربُّع مفهوم العزف المنفرد على الدِّيوان.
إنَّه قصيدة واحدة طويلة، مختلفة، متناغمة، تنفجر إلى عشرات القصائد، لكلٍّ منها دور في التَّنويع، لكنَّها جميعاً تعزف على ثيمة واحدة، هي الرُّجوع إلى الذَّات.
ثمَّة صور لا تتوقَّف تمرُّ أَمام العينين، متداخلة، متعانقة، متنافرة، متجاذبة، وكأَنَّ الشَّاعر أَحدث ثقباً في الزَّمن، وصار يطلُّ على الماضي، والحاضر، معاً، كأَنَّ الزَّمن كلَّه صار يعيش في الشَّاعر دفعة واحدة، أَو أَنَّ الشَّاعر صار يعيش في الزَّمن من أَقصاه إلى أَقصاه في لحظة صدق مع الذَّات.
قد يفرز ذلك النِّزاع المتراكم بين الرُّوح والجسد، حيث الرُّوح تتمرَّد على استسلام الجسد، وتحاول أَن تأخذ بيده، انزياحاً في الواقع، إنَّه الشَّاعر الَّذي يتستَّر بالشِّعر، ويجعل منه أَداته في حربه ضدَّ الواقع، حيث يصبح دور البطولة للرُّوح، بينما الجسد يقف كي يراقب ما يمكن للرُّوح أَن تنجزه في هذه المعركة اليوميَّة الَّتي لا تتوقَّف أَبداً.
سيتحوَّل الواقع في هذه الحالة، والشَّاعر قد غدا علويَّاً في نظرته الثَّاقبة، سيتحوَّل إلى عالم مواز، فالهدف الأَسمى في هذه الحالة، للشِّعر والشَّاعر هو أَن يعيد ترتيب هذا العالم، وخلقه من جديد.
إنَّه مليء بالسُّخط، لكنَّه مع ذلك مليء بالأَمل.
قد تغدو المسأَلة حالة من الانكشاف، والتبؤُّر، فذلك الصِّراع القائم بين الجسد، والرُّوح، يفرز تأمُّلاً ميتافيزيقيَّاً، كيف لا، والشَّاعر يحاول أَن يعيد لظم هذا الواقع في الزَّمن، والواقع يتفلَّت تماماً من تلك المحاولات.
إنَّها ذات الشَّاعر المتشظِّية، الَّتي يحاول إعادة صياغتها فيفشل في كلِّ مرَّة، ستمسي الذَّات خلف هذا الواقع، متجسِّدة من خلاله، لكنَّها لا تظهر فيه، وما يظهر، أَمام المرآة، حين يقف الشَّاعر متأَمِّلاً نفسه، هو تلك المحاولات للرُّوح فقط، أَن تطغى على الصُّورة المنبثقة أَمام العينين، بصورة أُخرى تنبثق من وعي عميق، بعيد، يغرف من الطُّفولة ملامحها، ويحاول أَن يعيد تشكيلها من جديد.
سيخلق الشَّاعر آنذاك عالمه، ويؤنسن كلَّ ما حوله، ويعيد ترتيب الماديِّ والميتافيزيقيِّ، ويختلط الموتى بالأَحياء، حيث لا حدَّ بين الموت والحياة، فلا نعرف بالضَّبط، إن كان الموت قد انفتح على الحياة، أَم إنَّ الحياة قد انفتحت على الموت، إنَه عتاب حارٌّ للجسد، ومحاولة للقفز عن تلك المآلات الَّتي قد توحيها الصُّورة المتشظِّية.
في قصيدة “موال” يقول:
والآن ماذا تبقَّى في خطوط يدي
غير البياض الَّذي يسطو على الكبدِ
أَيبتدي عازف الأَحلام مدْمَعَهُ
من غربة الرُّوح أَم من غربة الجسدِ
وفي قصيدة “غياب” يقول:
يتأمَّل في كلِّ ركنٍ من البيت
يصغي إلى كلِّ ما لمسته يداه:
الحقيبة/دولاب أَثوابه/المزهريَّة
رف الكتب
وسيصغي إلى الشُّرفة الجانبيَّة
حيث يعدُّ صباحاً قطع السُّحبْ
وفي إحدى قصائد “عزف منفرد” يقول:
رغم خطوتك الشَّاردة
أنت لن تهربي من قضائي
حيث على مَهَل أَتنزَّل فيكِ
كما يتنزلُ روح على ميت….
قد أَعدَّ له أَهله القبر والشَّاهدة!
وفي قصيدة أُخرى من “عزف منفرد” يقول:
أَبداً ليست صدفة
أَن تتمطَّى حولي أَفراس خساراتي
الليلة
في هذه الغرفة
حيث أَنا سائسها
لأَجرَّ ورائي خمسة
أَجداث….
وأَنا سادسها
وفي قصيدة “استدراك” يقول:
أَنشلني من نومي كلَّ صباح صدفة
وأُطلُّ على الشَّارع صدفة
تعجبني امرأَة صدفة
فأُراسلني قبل ثلاثين ربيعاً
لتكون حبيبة قلبي صدفة
لكن هل هو صدفة
هذا الموت العالق في….جدران الغرفة!
إنَّه يرى العالم من خلال ثقب في الذَّات، ربَّما ثقب تجربة قاسية، أَو تجارب ممضَّة، تجارب بلا عدد، يطلُّ عليها، ويحاول أَن يصحِّح مسيرتها، فهو المهمَّش الَّذي اختار الهامش بنفسه، لأَنَّه يدرك أَنَّ الحياة إنَّما تكمن هناك، وإنَّ الموت ليس أَكثر من فكرة عابرة، حين يصبح الشَّاعر عابراً للموت والحياة، حيث يتجلَّى النصُّ كفكرة عليا، لا تنتمي للواقع الماديِّ الَّذي آل في لحظة ما إلى الخراب، إنَّه يحاول أَن يجعل النصَّ انعكاساً للواقع، ليس المعاش، إنَّما المتخيَّل، وقد يأخذ النصُّ قدسيَّته من هذا المتخيَّل بالذَّات، حين يسمو بنفسه عن رجس الواقع.
ففي قصيدة “كان يمكن” يقول:
كان يمكن أن تتأخر
ربَّما ستكون السَّموات أَكثر عدلاً
والطَّريق إلى الحلم أَقصر
وفي قصيدة “عزاء” يقول:
في طريقي إلى المقبرة
سيكون عزائي في رحلتي
أَنَّني لم أَكن….ولداً نكرة
وفي قصيدة” بحار” :
مسكون بالبحر وأَقصى حانات العالم
مسكون بموانئ لم تعرف غيري
بنساء هنَّ الحور العين على الأَرض
ومسكون بي وبسرِّي
بشبيهي قبل ثلاثين سنة
تأخذه كأس نبيذْ
وتعود به كأس نبيذْ
بحَّار مع وقف التَّنفيذْ
وفي قصيدة “لوحة” يقول:
ولترسمي ملكاً مؤبد
لحرير خطوك إنَّما
من دونيَ الأَلوان ناقصة
فأنا الَّذي….سأكمل المشهد
ويحفل الدِّيوان بعشرات القصائد الَّتي نجد فيها الشِّعر يضيء الرُّوح، وينتصر لها، كأَنَّها، هذه الرُّوح، تلوذ به من فيض أَلم الجسد، وصورته الَّتي آل إليها.
إنَّه دفء ما بعد التَّجربة، حين ينتهي الشَّاعر من هذا العالم، ويؤوب إلى نفسه، يتأمَّل تجربته الطَّويلة، ويتأمَّل ذاته، وما آلت إليه الحياة، وما آل إليه الواقع المترع بالخسارات، والهزائم، الَّتي يوازيها تماماً هزيمة الجسد.
إنَّها أَيضاً، عزف مفرد، أَو منفرد، لكن بصيغة الجمع، حيث يحفل الدِّيوان بقصائد العزف المنفرد، وكأنَّ الذَّات تشظَّت إلى آلاف الذَّوات، في اللَّحظة ذاتها، وراحت تطلق معزوفاتها، لكنَّها جميعاً متناغمة معاً، متضافرة، تشكِّل لحناً أُسطوريَّاً واحداً، لكنَّه ليس محكوماً بالزَّمن.
وأُحبُّ من اللَّيل، ما بعد منتصف اللَّيل
حيث على عرش مملكتي ستضيء القصيدة
كلَّ رعاياي شرقاً وغرباً
وأُصدر أَمري
……….
وأُحبُّ من الأَصدقاء شبيهي الَّذي
قبل أَن أَتلفَّظ يقرأُ سرِّي
….
ينحاز محمَّد لافي إلى طبقة الإنسان، إن جاز لنا أَن نقسم هذا العالم إلى طبقتين: الإنسان، والوحش.
إنَّها تجربة النَّار، الحارَّة، الطَّازجة، الموجِعة، من أَجل العبور إلى الضفَّة الأُخرى من الحياة، الحياة الَّتي وعدته بالكثير، وخذلته، وتركته وحيداً بين جدرانه، أَمام المرآة، يتأمَّل ذاته، وينتصر بالشِّعر وبالمجاز على الواقع.
سيجد أَن الحياة أَصبحت تسير بشكل أَبطأ، وأَعقد، وأَكثر ضديَّة، وألماً، وسيتساءل بالضَّرورة عمَّن تغيَّر في الحقيقة هو أَم الواقع.
وأَصيح به كلَّما ضلَّت الخطوات بنا
في ضواحي النِّضال البعيداتِ:
قف يا محمَّد
أَرخ أُذنك لي، واستمع جيِّداً يا محمَّد
إنَّ عذريَّة في ضميرك لو خدشت
مرَّة حرقت
والَّذي سيصير رماداً بدربك لن يتجدَّد!
وفي قصيدة “أَنا الَّذي….” يقول:
منذ غادرت خطاي ساح البيتْ
كم طرق مشيتْ
وكم رؤى آخيت نجمها وما اهتديتْ
……
كم رايةٍ أَسقطتُ أَو أَعليتْ
وها أَنا أَعود من غبار رحلتي
كما ابتديتْ
ولستٌ في نهاية المطاف آسفاً
لأَنَّني أَنا الَّذي….رأَيتْ
وتتجلَّى هذه الأَفكار واضحة في قصائد أَصداء، وعزف منفرد، ووجه، وغيرها الكثير. ولو قُيِّض للشَّاعر أَن يكتب إهداء لهذا الدِّيوان الشعريِّ الَّذي أُصدر بلا إهداء، فلن يكون الإهداء إلا كما يلي: إلى محمَّد لافي دون سواه، فحتَّى القصائد الَّتي يهديها محمد لافي في هذا الدِّيوان إلى الآخرين، مثلي شخصيَّاً، ومثل صلاح أبو لاوي، وحنان-المرحومة- زوجته، ومراد السُّوداني، وآخرين، راحلين منهم، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، كلُّ تلك القصائد المهداة إلى الآخرين، ما هي إلاَّ مرايا يحاول الشَّاعر أَن يقف أَمامها ليعيد رؤية نفسه من جديد من خلال كلِّ هؤلاء.
ويتجلَّى ذلك واضحاً في مجموعة الوصايا الَّتي تحفل بها قصائد الدِّيوان، سواء في قصائد وصايا، أَو غيرها.
إنَّها خطاب إنسانيٌّ يُعبِّر عن نفسه، باللُّهاث، والوجع، والحنين، والغربة، والتأسِّي، والأَلم، والذِّكريات، والحبِّ، ومع كلِّ ذلك أَيضاً بالانتظار، والأَمل، لكنَّه خطاب للذَّات.
هذه المناجاة الرَّقيقة، وهذه الشَّكوى المتدفِّقة، وهذا الاختزال المجنون للزَّمن، ومراحل العمر، ومحاولة وصل ما فتقه الزَّمن، بين الماضي والحاضر، بين الشَّيخوخة والطُّفولة، بين الخيال والواقع، لم تجعل الشَّاعر يخرج عن نفسه، بل إنَّه يكاد يقول إنَّه لو عاش من جديد، لو بدأَ من جديد، فلن يختار إلاَّ حياته ذاتها، بلا ندم.
في لحظة ما، حين ينهار كلُّ شيء، أَو يكاد أَن ينهار، يفهم الشَّاعر، أَنَّ وظيفته كشاعر هي أَن يعيد بناء الحياة من جديد…لو بالكلمات، لأَنَّ الكلمة كانت المفتاح الأَوَّل، ومنها كانت الحياة، وهذا ما كان يفعله محمَّد لافي في ديوانه: غيم على قافية الوحيد…حيث لا يمكن أَن يتبع الغيم إلاَّ المطر، ولا يمكن للمطر إلاَّ أَن يأتي، في نهاية المطاف، ولو بعد الموت، بالحياة.
المصدر:
أحمد ابو سليم – الانطولوجيا