غزة…و”رقصة العفاريت”! – عبداللطيف مهنا
ليس ثمة ما يدعو للمفاجأة في انهيار مفاوضات القاهرة غير المباشرة، هذه التي دارت بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني عبر الوسيط المصري، لأنها ببساطة، ومنذ البدء، لم يك من السهل التكهن لها بغير هذا المآل… أُمر الوفد الصهيوني بقطعها والعودة فسارع إلى المغادرة، أما الفلسطيني الذي انتظر بعدها لساعات فلم يجد بداً من رحيله ايضاً وعودة اعضائه كل من حيث أتى. وبذريعة صواريخ ثلاثة لم يثبت أنها قد أُطلقت، اعاد الصهاينة هذه المفاوضات المتعثرة إلى ساحة الميدان المُقررة بخرقهم لآخر متوالية هدنها المتدحرجة، فعادت بالمقابل صواريخ المقاومة لتمثِّل وحدها الإرادة الفلسطينية فيها…عادت رحى المحرقة الصهيونية ضد غزة للدوران، فعاد الدم الفلسطيني المقاوم الى موالاة تسطير المزيد من صفحات ملحمتة النضالية البطولية. تصعيد الصهاينة الدموي المستميت بحثاً عن إنجاز ميداني ما قد يسهم في اقناع جمهورهم المحبط والمذعور والمتعطش اكثر فأكثر للدم جراء فشل استهدافات حربهم العدوانية على غزة، والذي اضاف الى استهداف المدنيين العُزَّل اطفالاً ونساءً، محاولة اغتيال القائد العام لكتائب القسَّام محمد الضيف الفاشلة، وللمرة الخامسة، ونجاحهم لاحقاً في اغتيال القادة القسَّاميين الثلاثة في رفح، قابله محاصرة صواريخ المقاومة للمستعمرين في ملاجئهم ولحركة الطيران في مطار اللد، وإعلان ابوعبيدة الناطق باسم الكتائب بأن مفاوضات القاهرة، أو ماوصفها ب”رقصة العفاريت”، قد ولدت ميتة، داعياً إلى الانسحاب منها وعدم العودة اليها…
لكن، ورغم هذه العودة إلى حتى ماقبل المربع الأول، إلا أن هناك بعد من يفضِّل القول بتعليق المفاوضات بدلاً من الجزم بانهيارها، مستنداً إلى أنه لا الوسيط، ولاطرفيها، ولارعاتها الأميركان، يريدون لها فعلاً نهائية مثل هذا المآل . المصريون، لازالوا المصرِّين على على أن وساطتهم، التي تعني لهم دورهم، لم تُستنفد بعد، ويوالون، وفقما يعلنون، اتصالاتهم بالطرفين. والصهاينة، رغم عنجهيتهم ومكابرتهم وبحثهم عن انتصار ميداني ولو وهمي، باتوا يدركون محدودية قدرة آلتهم الحربية الهائجة وعجز جبروتها عن التمكن من اعادة مارد الإرادة الفلسطينية المقاومة الى قمقم غزة المحاصرة محكم الإغلاق بعد أن اخرجه فجورهم الدموي منه، وإذ لامعنى لديهم للمفاوضات سوى محاولة انتزاع المزيد من التنازلات ممن يفاوضهم، أو مايعطيهم ما قد عجزوا وسوف يعجزون عن أخذه بالقوة في الميدان، فهم لن يعدموا توسل إخراج ما، أو لن يصعب عليهم الاستعانة بالرعاة، كي يسهل عليهم العودة الى طاولتها. والفلسطينيون، وهم العزَّل والمحاصرون والمستفرد بهم، وفي غياب العضيد والنصير والمساند، والمتعرضين الى شتى الضغوط، وحفاظاً على وحدتهم التي ماكانت إلا انجازاً من انجازات مقاومتهم، يأملون أن توفر لهم سبيلاً لانتزاع متواضع مطالبهم المصيرية، والتي من غير الممكن لهم التنازل عنها، والمتمثلة فيما ليس هو اكثر من وقف للعدوان المباشر، أو المحرقة التي تدار ضد وجودهم، وغير المباشر، أو الأفدح، وهو الحصار الإبادي الشنيع المضروب عليهم في غزة، بشقيه الصهيوني والعربي، لثمان سنوات متواصلة. أما الرعاة فيصعب التفريق هنا بينهم وبين صهاينتهم وإن بدوا احياناً أكثر تعقلاً منهم، أو حرصاً على صنيعتهم منها…هل هذا يعني أن لمتعثر هذه المفاوضات بعد انهيارها من سبيل للانتقال من مافوق الطاولة الى ما هو تحتها، وعبر ذات الوسيط ورعاية ذات الرعاة؟! وهل سيكون مصيرها في مثل هذه الحالة ما هو المختلف عن ما هو المعلن الآن من راهن المآل؟!
للاجابة، قد يكفينا التذكير بما كنا قد قلناه في مقال سابق، حين حذرنا من أن جل ما يريده الصهاينة هو ادارة الحصار لارفعه، وتحويل متتابع الهدن المؤقتة الى دائم الهدوء مقابل الهدوء. كان هذا حينها بالاستقراء والتحليل، لكنما الآن، وبعد انهيار المفاوضات واستئناف العدوان، فقد ثبت للجميع أن أقصى ما يريدونه هو فرض ترتيبات تتيح لهم مواصلة الحصار مخففاً، لكن بما لا يتعدى ما يسمحون هم به، وما يتيح لهم معرفتهم لكم حبة أرز تدخل من المعابر محكمة المراقبة إلى غزة، ومواصلة عدواناتهم الدورية متى شاءوا عليها ، يضاف اليه تعميم الأنموذج الإحتلالي المطبق في الضفة على القطاع عبر الحاحهم على ما يسمونه الالتزامات الأمنية، وتكريس الفصل بينهما عبر رفض كافة اشكال الربط بين شطريهما فيما طرح من مقترحات، الى جانب رهن مسألة اعادة اعمار القطاع بنزع سلاح المقاومة، أو ما يعادل موضوعياً تصفية القضية برمتها، الأمر الذي تتحضر لإخراجة الأدوار الأوروبية، ويحشد له من الآن “المجتمع الدولي” الأميركي، والتلويح ببركات ما ستُنعم به ما ستعقد من مؤتمرات لما يدعى ب”المانحين”، وما يمهَّد له عبر محاولات طمس كل مسببات وحقائق الصراع بالاغراق في التفاصيل والتركيز على الجوانب الإنسانية فحسب، أوحصر كامل القضية بها. لكنما لعل الأخطر والحري بأن يتم التحوط له والحذرمنه، هو طبخ قرار أممي وفق البند السابع يتيح للمعتدين تحقيق ما ينشدونه من الهدوء مقابل الهدوء، ويقيهم من حرب استنزاف لايكتمون خشيتهم منها، وهي امور يسهِّل منها راهن عربي يعد، ومن اسف، خير محفز لعدوانية دخل فجور دمويتها شهرها الثاني من قبل عدو هو لطبيعته الاستعمارية يشكِّل حالةً عدوانيةً دائمةً، وهو إذ تعيده الآن صواريخ المقاومة الى الملاجىء، ويتهيب جنرالاته العودة الى الحرب البرية، يستعيض عنها ومعها “رقصة العفاريت” المنهارة، أو المعلقة، بالعودة الى راهن التفاوض عبر التقتيل والتدمير عن بعد…وفي كل الأحوال، وقبل هذا وبعده، غزة قررت أن تقاوم.
غزة…و”رقصة العفاريت”! – عبداللطيف مهنا