كلمة الاسير المحرر حسام كناعنة في مهرجان التحرير
الأهل الأحبة، الأصدقاء الأوفياء، الرفاق المخلصين، أبناء وبنات بلدتي الأعزّاء، الضيوف الكرام، أيّها الحفل الكريم….
جئتكم اليومَ حاملاً في صدري صوت معاناة آلاف الأسرى والأسيرات الّذين يتشبّثون بحلم الحريّة والاستقلال الفلسطيني، كما يتشبّث الصباح بخيوط الشمس؛ وقد شاءت الأقدار أن تأتي حرّيّتي في الوقت الذي تفترس فيه آلة القمع والدّمار الصهيونيّة أرواح آلاف المدنيّين الأبرياء، من نساء وأطفال وشيوخ في قطاعنا الأشم. فالاحتلال الذي يسقط قنبلة تزن طناً على رأس طفل رضيع هو احتلال رخيص مجرم ومجرّد من كلّ القيم الانسانيّة؛ فهل سبق وأن سمع أحدكم باحتلال له أخلاق؟ فكم بالحريّ جيشه؟! وعلى مدار سنوات الاحتلال الطويلة والمريرة تعلّمنا، نحن الفلسطينيون، أن نجترّ من جراحنا المعجزة وأن ننحت بإرادتنا الصمود؛ ومن صراخ أطفال غزّة، وصوت مدافعهم الجبانة، سننسج لحناً وأغنية نقول فيها للعالم: إرادةُ الحياةِ لدينا ستنتصر حتماً على إرادة الموت والدمار لديهم، فالاحتلال مصيره الزوال والاندثار أمام صوت طفلٍ تَفتّق وعيه في مخيمات اللّجوء، وعَبّر عن باكورة انتمائه وأحلامه قائلاً: “أنا ابن صفد وغداً سأعود إليها”.
أيّها الأحبّة،
قد يتساءل بعضكم عن طبيعة وتفاصيل الظروف الحياتيّة التي نواجهها خلف القضبان؛ فالحياة هناك ليست كالحياة هنا، وإن كان بينهما متشابهات كثيرة. فالاستهداف الذي طال الحقوق الانسانية هنا ينحدر لينال من تفاصيل الحقوق الإنسانيّة هناك. وأنتَ، وأقصد كأسير، ملاحق على مدار الساعة، ملاحق في مأكلِكِ ومشربك وملبسِكَ، ملاحق في علاجك ونومك واستيقاظك، ملاحق في قلمك ودفترك وكتبك، وملاحق في زياراتك ورسائلك والبوم صُورك، لدرجة أنّهم يستبيحون مشاعرَك وآمالَك وأحلامَك، ويلغون خصوصيّتك، ومع ذلك لا تتفاجأوا إن قلت لكم بأن كل من هناك يستمدّون العزيمة والصبر من وقفاتكم التضامنية هنا! فتضحية الجزء منا بزهرة شبابه وحريته وحياته هي من أجل أن يضمنَ البقيّةُ منّا حياةً كريمةً آمنة، وأن يتفتّح في حديقة الوطن زهور حياة تنهض بالمستقبل. وفي هذا السياق، اسمحوا لي أن أتطرّق بشكل خاص إلى مستقبلنا في هذا الجزء المحتل من الوطن منذ عام 1948، ولا أخفيكم أنّنا كنّا نتابع، عبر وسائل الإعلام المتاحة، وباهتمام بالغ، الحِراكات الشبابية الواعدة كافةً التي تعيد للهُوية الوطنية الفلسطينية بريقها ورونقها، والّتي تتصدى ببسالة لعمليتيّ التهويد والأسرلة، اللتين تنتهجهما سلطات الاحتلال كسياسة تهدف إلى تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني ونسيجه الاجتماعي، تحت ادّعاءات ومسمّيات مختلفة. فعندما يستدعيني الوطن أكون أنا المسيحي الّذي يصلي في كنيسة البشارة على ترانيم الانجيل لاستعادة اقرث وكفربرعم، وأنا المسلم الذي يدافع عن مساجد صفد وطبريا وأوقاف عكا وحيفا ويافا.
وأنا الدرزيّ ابن بني معروف، الّذي يرفض عار التجنيد ويقف مدافعاً عن أرضِ الزابود في بيت جن، وأنا اليهوديّ الفلسطيني الذي يرفض الصهيونية ويعتبرها عدوّه الأول الذي انحطّ بالديانة إلى مستوى الفاشية العنصرية. أنا الفلسطيني الّذي يجمع في حشاشة قلبه وروحه كلّ معاني وقيم الوطنية الخالصة التي تقول: كلّنا للوطن والوطن للجميع، ورصاص الاحتلال لا يفرّق بين دَمٍ وآخرَ.
ولا شكّ أن حالة الاستنهاض التي يعيشها شبابنا ومجتمعنا هذه الأيام أفضل بكثير من أي وقت مضى، على الرُّغم من القصور الواضح في أداء الأحزاب السياسية، الأمر الّذي دفع الجيل الجديد إلى ابتكار وسائله النضالية والنأيِ بنفسه جانباً عن الأحزاب باعتقادٍ، على الأرجح أنّه اعتقاد خاطئ، فمحاكمة الأحزاب على سوء أدائها بالعزوف عنها هو محاكاة للخطأ بالخطأ لأنه أشبه بانتحار سياسي.
إنّ وجود الأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية، والمنظمات الجماهيرية والشعبية، في المجتمعات الخاضعة للاحتلال هو ضرورة نضالية وكفاحية منظّمة، تمثّل نقيضاً للعشوائية والحمائلية والطائفية التي يُعزز الاحتلال من وجودها. وبالرُّغم من هذه الصورة الملتبسة، فإن ما تقوم به الحِراكات الشبابيّة يجب أن يمهّد ويؤسّس لإعادة إحياء الأحزاب ودورها على أسس وطنية وديمقراطيّة تكفل التعدديّة في الفكر والأداء، وتضمن التدافع الطبيعي لتولّي الأجيال مواقع المسؤولية التي تستحقها.
المراقبُ لدالّة النشاط على المنحنى البياني للحِراك الشبابي يلاحظ بأن وتيرة التصاعد والمشاركة في مختلف الأنشطة والفعاليّات يأخذ منحاً ايجابياً يتّسع باستمرار! فمنذ بداية الهجمة المتجدّدة على أهلنا في النقب، بهدف اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم عنها، مروراً بإحياء ذكرى النكبة، ووقفة العزّ مع أهلنا في الضفة والقدس، بُعَيْدَ اغتيال الشهيد محمد أبو خضير، وحتى هذه اللّحظات التي نلتحم فيها وجدانيًا ومعنوياً ومادياً لنصرة شعبنا في القطاع الأبيّ المحاصر، والتفاعل الشبابيّ يُمثّل نبراساً يَهتدي به التائهون والضالّون في عتمة المؤسسات السلطوية وسراب التعايش مع المحتلّ!
أيّها الأهل الكرام،
كثيرة هي المآسي والأوجاع التي تلاحق شعبنا وأمتنا في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا العاجز والمنتكس، حيث باتت الشعوب والأوطان تمثل قرابين الصراع على الحكم، وفي الوقت الذي تَتَشَتّت وتخور فيه قوانا جرّاء هذه التناحرات الدموية الداخلية، تقوى شوكة أعدائنا وتزداد صلابة. فإذا كانت هذه أحوالنا وِفق الظروف الذاتيّة فكيف سيكون الأمر في ظل الظروف الموضوعيّة التي تتكالب المؤامرات لنهش جسدَ أمتنا بسايس- بيكو جديدة، تكون أدواتها ليس الاستعمار الخارجي وإنما أبناء الأمّة ذاتها، الّذين اختزلوها بالطائفية والمذهبية والعشائرية القبلية. في هذا المشهد السريالي لا يختلف واقعنا الفلسطيني كثيراً عن محيطنا العربي، حيث كنّا السبّاقين إلى الاقتتال والتناحر على السلطة في دولةٍ لم تولد بعدُ! فإذا لم نكن موحّدين كيف سنعالج قضايانا المصيريّة الوجوديّة، وفي مقدّمتها مأساة اللاجئين الفلسطينيّين في الوطن والشتات؟ فالوحشية التي تعرّض لها أبناء شعبنا في مخيّم اليرموك، ولا زال يتعرّض لها أحبّتنا في قطاع غزة تؤكد لنا بأنّ بوصلةً لا تشير إلى العودة هي بوصلةٌ مشبوهة. فعندما يسمح الاحتلال لنفسه باستجلاب ولملمة اليهود من أصقاع العالم ومن بؤر الصراعات المختلفة لمجرّد كونهم يهوداً، بالرُّغم من أن جذورهم لا تمت لهذه الأرض بصلة، بينما يَحول دون عودة أصحاب الأرض الأصليّين الّذين تعرّضوا للمجازِرِ، واقتُلِعوا من بيوتهم وهُجّروا من وطنهم بالقوّة على يد العصابات الصهيونيّة عام النكبة، لدرجة أنّ اللّجوء يُورّث كجزءٍ من الهُويّة الاجتماعيّة للفلسطيني المحروم من العودة إلى وطنه بسبب حملِهِ هذه الهُويّة، حتى وإن تعرّض لأبشع المجازر والموت جوعاً في اليرموك، وفي غزة ولبنان والعراق وليبيا…
وحتى لا أطيل عليكم في كلمتي هذه، الّتي اجتهدت أن تكون شاملة قدر الإمكان، دعوني أعود وأُذكّر بأولئك الّذين تركتُهم خلفي في الأسر، وقد مضى على وجود البعض منهم أكثَرَ من ثلاثين عاماً وهم لا زالوا يمارسون الحياة، وتَرتسم على وجوههم تلك الابتسامة المتفائلة التي أسِرَت معهم قبل ثلاثة عقود، ويتقاسمون الألم والمعاناة مع بقية أبناء شعبهم من الأسرى، مع العلم أنّ العبء الأكبر يقع على كاهل ذلك الرعيل الأول من أسرى المثلث والجليل والنقب والساحل الذين يمثّلون اليومَ عمداء الحركة الوطنية الاسيرة ويقفون على رأس التنظيمات الفلسطينية المختلفة؛ وما استمرارُ وجودِهم في الأسر إلاّ وصمةُ عارٍ على جبين تنظيماتنا الفلسطينيّة، التي تركتْهُم يواجهون مصيرهم وحدهم حتى هذه اللّحظة! فواجب العمل على تحريرهم واجب كلِّ حرٍّ شريف!
فباسمي واسمكم جميعاً أُوجّه تحيّاتنا إلى أرواح شهدائنا، بمن فيهم شهداء الحركة الاسيرة.
كما وأبعث بتحيّاتنا ومحبّتنا الخالصة إلى عائلات وأمهات أسرانا البواسل اللّواتي أُقبّلُ أيديهِنَّ وجباهَهُنَّ الطاهرة.
وأُبرق باسمنا جميعاً تحيّةَ فخرٍ واعتزاز إلى أولئك القابضين على جمرة الحريّة في أقبية السجون، وفي مقدّمتهم ابنة عرابة، المناضلة لينا الجربوني، وإلى كلٍّ من الأبطال كريم وماهر يونس من عارة، وليد دقة، صالح وابراهيم أبو مخ وابراهيم بيادسة من باقة الغربية، أحمد أبو جابر من كفر قاسم، سمير السرساوي من إبطن، محمود جبارين وسعيد جبارين ويحيى اغبارية من ام الفحم، ابراهيم ومحمد اغبارية من المشيرفة وبشير الخطيب من اللّد.
وفي الختام لا يسعني إلّا أن أرفع تحيّة النضال والمقاومة لأحدِ فرسان وقيادات شعبنا الفلسطيني العظيم، إلى الرفيق القائد الأمين العام والصديق أحمد سعدات – أبو غسان، الّذي نَهلْنا من معينِ أفكاره ومعنويّاته وتوجّهاته الوطنية الوحدويّة، ما يُعينُنا على مواصلةِ المسيرةِ الكفاحيّة ويُرْشدُنا إلى بيت الوحدة والعمل الجماعي المشترك.
المجد للشهداء والحرية لأسرى الحرية
عاشت فلسطين شعبية ديمقراطية حرة من البحر الى النهر .