صباحكم أجمل/ بير زيت.. حلم يتحقق – بقلم وعدسة : زياد جيوسي
(مشهد شامل لبلدة بير زيت)
كان حلمٌ.. أصبح حقيقة، هكذا همست لنفسي حين عدت من رحلتي وتجوالي بعد ساعات طوال من الصباح حتى المساء في بلدة بير زيت في الزيارة الأولى والتي تلتها جولة أخرى بعدها بعدة أيام لاستكمال الجولة واللقاء مع بعض من ذاكرة البلدة، فقد كنت منذ عدة سنوات أحلم بالتجوال في البلدة، وتكرس هذا الحلم حين دخلت البلدة القديمة ذات مساء وحضرت حفلا لفرقة يونانية، وحين شاركت بدعوة من د. هالة كيلة وجمعية الروزنا في رحلة للمناطق المحيطة في بير زيت ووادي النطوف، وتلا ذلك دعوة أيضا من د. هالة لمهرجان المفتول السنوي في بير زيت، حيث أتيح لي التجوال قليلا في البلدة والتقاط بعض الصور وزيارة أسرة د.هالة، ولكن ما كنت أحلم به لم يتحقق إلا بدعوة كريمة من مربية الأجيال السيدة ابتسام سليمان، التي وجهت الدعوة لي وقامت بترتيب برنامج الزيارة مع المجلس البلدي والمؤسسات الأخرى في البلدة، فالسيدة ابتسام ابنة بير زيت المخلصة والمنتمية، ورغم أن عملها وإقامتها في رام الله إلا أنها تذوب بالمحبة والانتماء لبير زيت بلدتها ومسقط رأسها وحيث إقامة أسرتها، وساهمت الشابة نور عصفور عضو المجلس ببعض من الترتيبات أيضاً من خلال الاتصال.
(آبار الزيت التي منحت البلدة اسمها)
صبيحة 24/2/2014 كنت ألتقي السيدة ابتسام لنتجه إلى بلدتها الجميلة، هذه البلدة الضاربة الجذور في التاريخ، وكل حجر فيها يروي حكاية من الحكايات، ومجمل هذه الحكايات تروي ملحمة الأجداد الذين حفروا الصخر بأظافرهم وتركوا لنا هذا الكم من عبق التاريخ والتراث وحكاياته، فهذه البلدة التي ارتبط اسمها بزيت الزيتون الذي تشتهر به، حتى أنها حملت اسمها نسبة إلى آبار الزيت التي اشتهرت بها البلدة، وقد أتيح لي أثناء جولتي مع السيدة ابتسام رؤية وتوثيق بعض من هذه الآبار.
(نصب شهداء جامعة بير زيت)
بير زيت الواقعة على بعد لا يتجاوز العشرة كيلومترات شمال مدينة رام الله، وهي جزء من محافظة رام الله والبيرة، سلكنا الطريق إليها عبر شارع جميل مرورا ببلدتَي سردا وأبو قش، وفي مدخل المدينة وعلى ربوة مرتفعة كانت تواجهنا جامعة بير زيت، هذه الجامعة التي تركت وما زالت تترك بصمات واضحة في العلم من جانب، وفي الثقافة من جانب آخر، حتى وصلنا إلى كنيسة البطريركية اللاتينية ومدرستها، حيث استقبلتنا السيدة روند مسلم مديرة المدرسة، ووضعتني بصورة عن تاريخ المدرسة والكنيسة، فهذه المدرسة لها حكايات في نشأتها وتطورها وقد شهدت ابتسام سليمان طالبة، ومديرتها الآن كانت من تلميذات ابتسام وطالباتها كما العديد ممن التقيتهم وكانوا من طلابها وطالباتها.
(مدرسة البطريركية اللاتينية _ بيرزيت)
المدرسة كانت بدايتها عندما تم بناء دير اللاتين عام 1863 حيث تم تخصيص غرفتين لتعليم الأطفال ، وبقيت المدرسة تتطور رغم الصعاب وبجهود الآباء الذين كانوا فيها حتى عام 1993 حين وصل الأب إميل سلايطة وعمل على تطوير المدرسة حتى أصبحت مدرسة ثانوية، وكان الأب أنطون بوزو قد خدم المدرسة وعمل على تطويرها عبر خمسين عاما تاركاً بصماته عليه، وتخليداً لدوره فقد أطلق اسمه على الفرع الثانوي بالمدرسة، والمدرسة الآن أصبحت منارة علمية تخدم طلاب بير زيت والقرى المحيطة بها.
(مدرسة البطريركية اللاتينية وكنيسة العذراء، الحَبل بلا دنس)
من المدرسة كنت أجول الدير والمسمى كنيسة العذراء، الحَبل بلا دنس، وهذا الدير له حكاية طريفة حين تأسيسه الأول، فقد بدأ العمل في بناء الكنيسة عام 1863م واستمر حتى عام 1865، وكان الأب جان موريتان هو المشرف على البناء بحكم عبقريته في مجال الهندسة، وإن كان الأب موريتان يقول في مذكراته إن دوره كان صغيراً، وقد وردت الفقرة الآتية في مذكراته وبها الحكاية الطريفة لبناء الدير: (أنا لم أعمل خارطة كنيسة بيرزيت بل السيدة كاركويت من راهبات الناصرة السابقات، ولكني كنت حاضراً عند شراء الأرض وتحديد مكان البناء، وكانت معي بوصلة، فأعطيت التوجيهات للاتجاه الشرقي الذي يجب أن توجّه إليه الكنيسة.
وأذكر ما حدث في تلك المناسبة: كان الحقل مزروعاً بالفول، وكان مزهراً، ولم يكن لنا حق في الأرض إلا بعد جني المحصول. ولأنني لن أبقى بشكل دائم هنا، أحببت قبل سفري أن أحدد اتجاه الكنيسة الجديدة.
تقدمت وحدي إلى منتصف حقل الفول، ورافقني الأب بوست، الذي كان في ذلك الوقت كاهن الرعية المُرسَل لبير زيت، وكنت مسلحاً بالبوصلة الصغيرة التي كانت تدور لوحدها، فأثارت فضول الموجودين جميعاً، وحضر الكثير من أهل القرية، وكان كل واحد منهم يريد أن يعرف ماذا أفعل، فداس الناس على حقل الفول في لحظات، وكانوا أكثر من مائة شخص، وبدأ صاحب الحقل يصرخ ويشتم، ولكن أحداً لم يُعره أي انتباه، ولم يستطع السيطرة على الموقف، ورأى بأم عينيه كيف تلف المحصول. ولم ننجح أنا وكاهن الرعية في إيقاف هذه الهجمة، ولم يكن عليّ سوى إنهاء العمل بسرعة ووضع علامتين كإشارة لاتجاه الكنيسة، ومن ثم الانسحاب، عندها سأجلب الجمهور إلى خارج الحقل لرؤية الآلة العجيبة التي بين يدي، وقد نجحت في ذلك، فخرج الجميع من الحقل بعد أن تركوا وراءهم دماراً كبيراً، إذ أتلف المحصول، فتوجهنا مع الناس لإرضاء صاحب الحقل، ثم ذهبنا لشرب القهوة وأكل البطيخ عند أحد شيوخ القرية الذي دعانا عنده. وهكذا فقد بدأ العمل بالدير مباشرة بعد أن أتلف حقل الفول وتم إرضاء صاحبه).
(سيدة غوادالوبّة)
أما الكنيسة الحالية فقد مرت بظروف صعبة حتى تم انجازها، ولعب الأب أنطوان بوزو دوراً كبيراً في ذلك، حيث افتتح عام 1953 ورشة لعمال دق الحجارة وصمم الخريطة بنفسه بالتعاون مع المهندس بول كوفرير رئيس رهبان اللطرون، والذي توفي قبل الشروع ببناء الكنيسة فأكمل عنه المهمة الأب بولان شنايدر، وهو من رهبان اللطرون أيضا وهو له خبرة جيدة فقد ساهم في ترميم كنيسة القيامة، وكانت المشكلة الأساسية التي تواجه الأب أنطوان بوزو هي التمويل، فتوجه إلى رعيته في منطقة أودرزو Oderzo، في منطقة فيتّوريو فينيتو (شمال إيطاليا)، ومن هناك بدأ بجمع التمويل، معتمدا على كاهن رعيتها المونسينيور دومنيكو فيسانتيني، كما توجّه إلى المواطنين فوجد عندهم الدعم والتأييد، كما لم ينس التوجه إلى المغتربين من أبناء بير زيت في الأردن والدول العربية والمهجر، والذين لم يقصروا بحق كنيستهم.
(كنيسة العذراء، الحَبل بلا دنس)
وحين بدأ العمل بالحفر للكنيسة فوجئ العمال بوجود آثار لكنيسة بيزنطية تحت الأرض وفيها أضرحة لأربعة أشخاص وبئر قديمة وفوانيس حجرية، فصارت هذه المكتشفات هي أساس للكنيسة الجديدة، وفي عام 1963 تم إنجاز الطابق الأول، وبعدها ارتفعت التكاليف لإكمال البناء وقلت التبرعات والمساعدات، وهذه مشكلة جديدة واجهت الأب أنطوان بوزو، وهو كما عرف عنه لا يتوقف أمام العقبات عاجزا، فواصل حركته الدؤوب لإكمال الكنيسة، حتى كانت المساعدة الكبيرة من الكنيسة المكسيكية ومنحت كنيسة بير زيت اسم سيدة غوادالوبّة وكان ذلك وحسبما أشارت مصادر الكنيسة من خلال كاهن مكسيكي هو المونسنيور غريغوريو أغويلار، رئيس كهنة المعبد الوطني لسيدة غوادالوبّة في المكسيك، وهذا الاسم له حكاية تخص الكنيسة المكسيكية وسيكون مجالاً للحديث في الحلقة القادمة.
صباح عمّاني جميل، أجلس لشرفتي في هذا الصباح، أنظر نحو عصافير الدوري التي اعتادت أن أضع لها بعض من الأطعمة أثناء زياراتي العمّانية، أحتسي قهوتي وحيداً مع روح طيفي الأجمل، وأستمع لفيروز تشدو: (إذا المحبة أومَتْ إليكمْ فاتبعوها.. إذا ضمتكمْ بجناحيها فأطيعوها.. إذا المحبة خاطبتكمْ فصدّقوها.. المحبة.. تضمكمْ إلى قلبها كأغمارِ حنطة.. على بيادرها تدرسكمْ لتظهرَ عُريكمْ.. تطحنكمْ فتجعلكمْ كالثلجِ أنقياءْ..).
فأهمس: ما أجملك بير زيت.. حلم يتحقق، صباحك أجمل عمّان الهوى، وصباح أجمل لرام الله ووطني، صباحكم أجمل أصدقاء وأحبة.