” انهيارات ” الشاعر سعدي يوسف في السيكولوجية المعاصرة !!! – د.عامر صالح
أثارت لدي الحملة المسعورة ضد الشاعر والمثقف العراقي سعدي يوسف مزيدا من الحنق والألم والإحساس باللا موضوعية في أخذ الثأر من شاعر مرموق يشكل جزء من تاريخ العراق الثقافي في مقارعة الظلم والاستبداد وضد تلوث الهوية الوطنية العراقية. وقد أعلن البعض من المرضى بسيكولوجي الظهور والشهرة عزمهم على حرق تراثه الموغل في ثقافة العراق والعراقيين في مناسبة استعراضية لخلط الأوراق بين انتماءاتهم السابقة للبعث المنهار وللثقافة الدكتاتورية وتأكيد ولائهم المرضي للتوليفة الطائفية والسياسية والاثنية التي تدك العراق وتوجعه وللحفاظ على مناصبهم الرثة ذات الامتيازات في واقع الفساد العراقي. وهذه السلوكية المرضية في الثأر من المعارض المغاير تجد لها قرينة حاضرة اليوم في سلوك ” داعش ” السيكوباتي المتمثلة في حرق التراث وهدم المراقد والأضرحة وتغير معالم الحياة الإنسانية في التآلف والتعايش المتنوع, في محاولة لإبقاء الحياة في لون واحد, وأغلبه اسود مأساوي !!!.
قبل الخوض في مبررات ” سعدي يوسف ” النفسية في هذا الهجوم المباغت كشاعر ورمز من رموز الثقافة العراقية, أضع قصيدته التي أشعلت الحرب عليه من أعداء تقليدين للثقافة بين يدي القارئ والموسومة: ” مصر العروبة … عراق العجم ” والتي قال فيها:
من مصر تأتيني الحقائقُ ملموسةً. أصدقائي من أهل الثقافةِ الحقّ، يأخذون مكانَهم ومكانتَهم:
محمد بدوي، في ” فصول “.
محمد شُعَير، في ” عالَم الكتُب “.
سعد القرش، في ” الهلال “.
إبراهيم داود، في ” الأهرام “.
رفعت سلام، في دائرة الترجمة بالهيأة المصرية العامة للكتاب.
أحمد مجاهد، يدير الهيأة المصرية العامة للكتاب …
جمال ألغيطاني، يتفضّلُ على ” الأخبار ” بفيضٍ منه.
أحمد عبد المعطي حجازي يغرِّدُ طليقا !ً
لستُ مؤرِّخاً لأحصي! ))
لكنّ عليّ القول إني ابتهجتُ بجابر عصفور وزيراً للثقافة في جمهورية مصر العربية.
*
كلما دخلتُ مصرَ أحسسْتُ بالعروبة، دافقةً…
ليس في الأفكار.
العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ.
أنت في مصرَ، عربيٌّ… هكذا، أنت في مصر عربيٌّ، لأن مصر عربيةٌ. ولأنّ أي سؤالٍ عن هذا غير واردٍ.
الأمرُ مختلفٌ في أراضٍ أخرى.
السؤالُ يَرِدُ في بلدانٍ مثل الجزائر والمملكة المغربية وموريتانيا، والسودان، ولبنان أيضاً، على اختلافٍ في المستوى.
لكن هذا السؤال، في هذه البلدان، ذو مستوىً ثقافيّ أركيولوجيّ. هو سؤالُ هويّةٍ وتاريخٍ.
.في العراق اختلفَ الأمرُ
وربّتما كان مختلفاً منذ دهرِ الدهاريرِ.
هل العراق عربيٌّ ؟
يرِدُ تعبير “شيخ العراقَين” عن فقهاء أجمعَ الناسُ عليهم.
يعنون: عراق العرب
وعراق العجم.
*
الدولة الحديثة، بتأسيسِها الأوربي، الاستعماري، ليست دولة الفقيه.
هي دولة ٌ لإدارة كيانٍ جغرافيّ ( قد يكون متعددَ الإثنيّات، وقد لا يكون).
لكن العراق ليس مستحدَثاً.
اسمُ العراق آتٍ من أوروك!
إذا…ً
ما معنى السؤال الآن عن أحقيّة العراقِ في دولةٍ جامعةٍ ؟
ما معنى أن يتولّى التحكُّمَ في البلدِ، أكرادٌ و فُرْسٌ ؟
ما معنى أن تُنْفى الأغلبية العربية عن الفاعلية في أرضها التاريخية ؟
ما معنى أن تُستقدَم جيوشٌ من أقاصي الكوكبِ لتقتلَ عرباً عراقيّين ؟
ما معنى أن تكون اللغة العربية ممنوعةً في إمارة قردستان عيراق البارزانية بأربيل ؟
*
إذا:ً
نحن في عراق العجم!
*
سأسكن في مصر العربية!
لندن 15 / 11 / 2014
وقد سبق هذه القصيدة قصائد عدة, منها: : ” الفلوجة تنهض ” وفيها إدانة للاحتلال الأمريكي, وهجوم لاذع على المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بشخص السيستاني, وتلتها أيضا قصائد أخرى, مثل قصيدة ” إصرار ” و قصيدة ” هل العرب مرحلون عن العراق ” وقصيدة ” الجرذان لا تغادر السفينة الغارقة “, وجميعها ذات موضوعات تتعلق بمصير شعب خضع للاحتلال الأمريكي, واختلطت فيه السياسة بالدين لدرجة لا يمكن فيه تزكية النظام السياسي إلا بضوء اخضر من المرجعيات الدينية في السر والعلن, وأشاع فيه الفساد بما يزكم الأنوف, وبات فيه التدخل الإيراني في الشأن الداخلي مسلمة لا تحتاج إلى مزيدا من العناء لإثباتها في ظل غياب الدولة الحاضنة للجميع, كما أصبحت فيه المحاصصات الاثنية والقومية والطائفية قانونا وعرفا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه وإدانته, وبنفس الوقت وبما يثير الاستغراب إن سعدي يوسف يشن هجوما لاذعا على الشيوعيين العراقيين ويتهمهم بالجاسوسية والتواطؤ مع الأوضاع السائدة, وهو خلاف لما تطلبه الناس من موقف واضح للحزب الشيوعي العراقي من مجمل الإحداث المفصلية الجارية, فالفرق كبير بين أن تتهم جهة سياسية بالتواطؤ وبين أن تطالبها بموقف من الأحداث, كما أوحى لبعض من قرائه أنه يغذي الفتنة الطائفية السياسية والاثنية بانحيازه إلى بعض من أطراف الصراع السياسي والوقوف ضد الآخر, وقد أفرط هنا سعدي يوسف بانفعالاته ولكن لماذا ؟؟؟ سأعود إلى ذلك !!!!.
وتباعا استرعاني تعليق الشاعرة رسمية زاير ” كما ورد في حوار بعنوان: أدباء عراقيون يعتزمون حرق كتب سعدي يوسف ” والمنشور على صفحات الانترنيت, حيث فيه قدر من الإنصاف والتأني والموضوعية في مسألة التعرض للشاعر سعدي يوسف وقد ورد فيه:
” لا يمكن محاكمة الناس على أفكارهم هكذا ومهما اختلفنا مع سعدي يوسف في ما يطرحه لكن يبقى سعدي واحد من اكبر شعراء العراق ولا يحق لنا غض النظر عن تراث سعدي يوسف الذي تربت أجيال كثيرة على قصائده حتى أصبحت أناشيد وأغاني يتغنى بها الناس في السجن وفي الحرية على السواء. وأضافت: ومع أن أطروحاته الأخيرة مزعجة لأمال محبيه وجمهوره الكبير لكن لا يصل الأمر إلى مستوى إحراق كتبه, هذا نوع من الإرهاب الفكري يمارس بحق قامة شعرية كبيرة. وتابعت أيضا أن المعروف عن وسطنا الثقافي في العراق كونه انفعاليا يصدر أحكاما جائرة بحف من يختلف معه. ومع أن أراء الشاعر في الفترة الأخيرة غير متزنة ومتهورة أحيانا, لكن رغم هذا يبقى هو أحد أكبر شعراء العراق في العصر الحديث وهو واحد من الشعراء الرواد الكبار الذين لم يبقى لنا منهم سوى حسب الشيخ جعفر وسامي مهدي وفوزي كريم وفاضل العزاوي ومظفر النواب. وحتى الذين يريدون حرق كتب سعدي وإصدار حكم الإعدام بحقه تجدهم من أشد المعجبين والمتابعين له, أنهم يتغنون بقصائده الأخيرة ويتناقلوها على سبيل المزاح والنقد, ولكن من يمتلك موهبة سعدي يوسف وقدرته على الإبحار في خضم القصيدة, انه الربان والملاح الأخير للأدباء. للأدباء نزعاتهم الذاتية وغرابة أطوارهم التي تجعلهم محط أنظار متابعيهم وتتناقل إخبارهم, ولو كان سعدي يوسف شاعرا أوربيا أو أمريكيا لأقاموا له التماثيل ولشغلتهم شاعريته عن التفكير في إصدار أحكام جائرة بحقه. أما نحن فمهمتنا التحطيم, فقط تحطيم رموزنا الثقافية والنيل منهم “
في تلك الواقعية التي وردت على لسان الشاعرة رسمية زاير, والتي يقابلها في الطرف الآخر هجوم لاذع ومحاولات بائسة لتكريس إقصاء سعدي يوسف وتشديد الخناق عليه وإسكاته في محاولات مرضية لنفي احد رموز الحداثة في الشعر العربي والعالمي, أعكف على توضيح بعض الدلالات السيكولوجية في تفسير محتوى الطاقة الانفعالية والمفرط الاستفزازي الذي يستخدمه سعدي يوسف لما هو سائد في ترجمة واضحة منه, أنه لا يوجد أحد معفى من النقد مهما بلغ شأنه ولا يوجد شيء مقدس وهمي, والقدسية لا مكان لها خارج إطار صيرورتها الموضوعية ومجمل مواقفها من الشأن العام, فما هو مقدس للعوام من الناس بفعل عوامل تخلف الوعي ليست بالضرورة مقدس للنخب الثقافية !!!.
ينقسم الناس عموما من وجهة النظر الفسيولوجية ـ السيكولوجية إلى ثلاثة أقسام من ناحية العلاقة بين مراكزهم المخية الحسية واللغوية ومن ناحية الصلة بين المخ وبين الأقسام الدماغية التي تجاوره وتقع أسفله. وهذا هو الأساس الفطري الفسلجي للعلماء أو المفكرين والفنانين بما فيهم الشعراء المبدعين ولعامة الناس. فإذا تغلبت المراكز المخية اللغوية على الحسية وتغلب المخ على ما تحته نشأ لدينا الأساس الفسلجي للعلماء الذين ينبغي لهم ان يستثمروا حده الأقصى في الدراسة العلمية المتخصصة ليصبح صاحبه عالما في احد فروع المعرفة العلمية. وينعكس الحال عند الفنانين والشعراء حيث تسيطر المراكز الدماغية الحسية التحتية والمتخصصة في الانفعالات و التي تجاور المخ, وان هذه المراكز الحسية القوية في التآزر مع النصف الأيمن من نصفي الكرة المخيين تجعل صاحبها يدرك الطبيعة والمجتمع إدراكا حسيا على هيئة صور حسية حية وفضفاضة ويتعامل مع الظروف البيئة المحيطة, السياسية والاجتماعية بالعواطف الجياشة التي تقع مراكزها الدماغية تحت المخ وفي التعاون على الأعم الأغلب مع نصف المخ الأيمن ” الذي يتميز بالحدسية والحرية في المشاعر وفرط الاستعارات ويفضل الحل الحدسي للمشكلات ويفضل المعلومات غير المؤكدة والمراوغة وهو ذو طبيعة أقل قيود من النصف المخي الأيسر, ويستجيب كثيرا للتوجيهات المصورة أو الرمزية ” على هيئة نتاج فني راقي في الشعر وفي مختلف الرسومات الفنية المميزة, كما انه يدرك العالم المحيط بارتباطاته الطبيعية باعتباره كيانا متماسكا. وينعكس الحال عنه عند العلماء الذين يتعاملون مع البيئة عن طريق الرموز والمعادلات بعد تجزئتها إلى عناصرها الأولية لكي يفهمها. أما عند أغلبية الناس فتتساوى لديهم الطاقة الفسيولوجية بين المراكز الدماغية الواقعة تحت المخ وبين نصفي المخ الكرويين, الأيمن والأيسر !!!.
في هذا التحليل الموجز نضع سعدي يوسف في مكانه الصحيح كونه ليست فقط مكون ثقافي بل مكون فسيولوجي وسيكولوجي , التحمت لديه عوامل الخبرة الطويلة الأمد مع مزاياه الدماغية في تفردها الإبداعي والمحمل بشحنة انفعالية هائلة استنادا إلى الظروف اليومية المعاشة في الشأن العراقي خاصة والعربي بوجه عام. أذن لا داعي أن تقف مع سعدي يوسف ونصرته فهو يقف مع نفسه في مقارعة الظلم والاستبداد, وله أنصاره من الأجيال الماضية والحاضرة والمتعاقبة !!!.
” انهيارات ” الشاعر سعدي يوسف في السيكولوجية المعاصرة !!! – د.عامر صالح