عمر بن الخطاب والفرس – بقلم زهير كمال
في تصريح لافت للانتباه، انتقد آية الله هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام شتم الصحابة والاحتفال بمقتل الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم، مضيفاً أن ذلك قاد إلى نشوء تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية.
قبل هذا، صدر تصريح مماثل للزعيم الشيعي مقتدى الصدر وقد اتهمه بعض علماء الشيعة المتشددين بالسفه ووصفوه بأقذع الأوصاف.
فالمغالون من الإخوة في المذهب الشيعي وخاصة في إيران يحقدون على عمر بن الخطاب وهناك مزار لفيروز أبي لؤلؤة المجوسي الذي قام بتنفيذ عملية اغتيال الخليفة عمر وبعضهم يدعي ان المزار هو قبر فيروز نفسه وهذا خطأ تاريخي فقد قام فيروز بقتل نفسه بعد تنفيذ الإغتيال حيث تجمع عليه المصلون ورموا عليه عباءة فقتل نفسه بالخنجر الذي أودى بحياة سبعة من المصلين كانوا ضمن ثلاثة عشر جريحاً منهم عمر الذي توفي بعد فترة قصيرة تتراوح بين ستة ساعات وأربع وعشرين ساعة.
ولم يقم أحد بنقل جثمان فيروز من المدينة حيث دفن فيها.
لا يعرف المغالون من الشيعة ان فيروز لم يكن سوى أداة ، ومؤامرة الإغتيال هي من تدبير بني أمية وحليفهم المغيرة بن شعبة مولى فيروز.
كتب التاريخ لم تبحث جدياً في هذا الموضوع ولم يتم التحقيق في الأمر في حينه رغم إصرار علي بن أبي طالب على ذلك ويمكن القول انه قد تم لفلفة الموضوع من الخليفة الجديد عثمان بن عفان الأموي، وكان الإجراء الوحيد الذي اتخذه هو عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية الكوفة وعلق على الموضوع قائلاً ( ماذا تريدون أكثر من ذلك ، ها أنا قد عزلته ) .
قبل الدخول في موضوع المقال وهو المساهمة القيمة التي قدمها الفرس الذين دخلوا الإسلام في مساعدة عمر على بناء الدولة الإسلامية ، لا بد من الإشارة أنه بعد استشهاد الحسين بن علي وتكون المذهب الشيعي أخذ بعض علماء المذهب البحث بأثر رجعي عن الأخطاء والمساوئ التي طالت الأسرة الهاشمية. وكأمثلة على ذلك ما حدث في سقيفة بني ساعدة وترشيح أبي بكر لخلافة النبي ودور عمر في الدفع بقوة في هذا الاتجاه. وكذلك موضوع أرض الفدك وموقف أبي بكر وعمر في عدم توريث فاطمة لهذه الأرض اعتماداً على النص ان الأنبياء لا يورثون.
رغم ان هذا الموضوع قد سودت فيه آلاف الصفحات بين رد وسجال الا أنني أرى أن بعض الشيعة هم ملكيون أكثر من الملك ، فلم تسجل كتب التاريخ كلمة واحدة صدرت عن علي في الاحتجاج على قصص تحولت الى مشاكل كبرى ، بل إن حماسه واندفاعه ونشاطه خلال فترة خلافة عمر ساهمت مساهمة فعالة في صياغة الدولة الإسلامية على الشكل الذي نعرفه ، فما من قانون صدر أو قرار اتخذ إلا وكان لعلي أصبعاً فيه من خلال الإفتاء بموقف الإسلام في المواضيع والأحداث التي كانت تجري بوتيرة سريعة جداً في تلك الفترة الهامة من التاريخ.
ولعل أعظم إنجاز لعلي هو تأييد عمر في توزيع أرض السواد ( العراق) على فلاحي البلاد الأصليين وما تبع ذلك في باقي البلاد المفتوحة، وخالفا في ذلك ما كان متبعاً أيام الرسول في طريقة تقسيم الغنائم. معتمداً على نصوص قرآنية تخالف النصوص السائدة والمتعارف عليها، واجتهاد ثوري كهذا شجع سكان البلاد الجدد على الدخول بشكل طوعي في الدين الذي لا يفرق بين عربي وعجمي ألا بالتقوى.
ولو أردنا إعطاء وصف لعلي في تلك الفترة لقلنا انه نائب الخليفة ومفتي الدولة فهو باب مدينة العلم. وهناك بعض الكتب التاريخية التي تذكر أن عمر بن الخطاب كان يفضل ويحبذ خلافة علي له ولكن تحالف الأغنياء في ما بقي من العشرة المبشرين بالجنة والذين اختارهم عمر لإختيار صحابي يخلفه قد حال دون ذلك. ولا شك أن أختيار رأس الدولة بحيث لا يمت بصلة قرابة لسلفه هي فكرة ثورية أخرى جاء بها الإسلام ومما يتناسب مع ما وصلت اليه البشرية في وقتنا هذا من تطور في الانتخاب الحر والديمقراطي لرأس الهرم، ولكن هذا موضوع آخر.
كلمة الدولة تعني النظام، وهي أن المجتمع يقوم بتنظيم نفسه بحيث يعرف كل فرد فيه حقوقه وواجباته ، وقد بدأت الدولة الإسلامية تأخذ هذا المسار في عهد عمر بن الخطاب، أصبح هناك جيش منتظم يحارب على جبهتين في الشمال ويستدعي ذلك أن تكون له قيادة عسكرية ثابتة مسؤولة لها مهام محددة ويمكن عزلها أو عزل أفراد منها، وأصبح لها مخازن تموين وتسليح ، أما أفراده فمن حقهم أخذ إجازات للذهاب لروية ذويهم كل فترة ، كما أن اختيار الأفراد لهذا الجيش له مواصفات معينة كأن لا يكون وحيد الأبوين وغير ذلك.
وأصبح للدولة دخل ثابت من الزكاة وعليها دفع رواتب للمحتاجين ، ويترتب على ذلك تسجيل دافعي الزكاة السنوية ومن تخلف منهم ، وتسجيل المحتاجين ومن قبض منهم.
أمور كهذه تقوم بها الوزارات في أيامنا هذه وتعتبر من المسلمات او البدهيات ، ولكن في تلك الأيام حيث لم تعرف الجزيرة العربية أي تنظيم سابق فقد كانت بمثابة معجزة كبرى.
وهذا يقودنا الى موضوع الدواوين التي قام عمر بن الخطاب بتأسيسها لتنظيم الدولة.
ولكن من قام بتنفيذ هذا العمل الجبار؟ ومن أداره بشكل يومي؟
في البحث في كافة الكتب التاريخية التي أرخت لتلك الفترة لا نجد سوى النزر اليسير عن هذا الموضوع ، كما أن الباحثين في العصر الحاضر لم يقوموا بعمل أي بحث جاد في تفصيلات هذه النقطة.
ويشبه البحث والتدقيق في هذا الأمر تركيب صورة ممزقة ولا بد من تجميعها كأن تبدأ بالاركان ثم القطع التي بها حافة مستقيمة الخ .
أما في تاريخ الحقبة المشار اليها والتي بدأ تسجيل أحداثها بعد ثمانين عاماً من وقوعها فقد ركزت كتب التاريخ، على قلتها ، بالرسول ،أقواله وأفعاله أولاً ويأتي خلفاؤه في المرتبة الثانية بدون تفصيل وإسهاب ، ولا يخفى تحيز بعض كتاب تلك الفترة للقارئ الذي يشتري الكتاب وهو الخليفة أو الوالي.
وفيما يلي النقاط الجوهرية في الوصول الى الحقيقة في هذا الموضوع:
أولاً: أن عدد الذين يتقنون الكتابة والقراءة في كافة الجزيرة العربية لم يتجاوز 17 فرداً أيام الرسول وليس ممكناً أن يزيد العدد بحيث يستوعب العدد الكبير الذي تحتاجه الدواوين ، ومن الجدير بالذكر أن الرسول قد استعان في كتابة القرآن على عدد منهم ولم يكن شرطاً أن يكونوا مسلمين أو مخلصين له ، وقد أهدر الرسول دم واحد من كتاب الوحي هو عبدالله بن أبي سرح، كان ضمن أربعة فقط عند فتح مكة ، رغم أن مكة كلها كانت تحاربه على ما هو معروف، مما يدلل على فداحة جرمه رغم أنه كاتب وحي.
ثانياً: أن الدواوين في الجزيرة العربية والعراق كانت مكتوبة باللغة الفارسية ، أما دواوين بلاد الشام فقد كانت باللغة البيزنطية وفي مصر باللغة القبطية، وقد تم تحويلها الى اللغة العربية بعد فترة طويلة وربما بعد إدخال التنقيط على اللغة حيث تم تمييز الأحرف عن بعضها بحيث أمكن فهم النص من الكتابة وليس من المعنى. (مثل بسيط فإن حرف ب، ت، ث بدون تنقيط كانت متشابهة ولهذا فانه يمكن قراءة كلمة باب على عدة نواحٍ مثل تاب وثاب وبات الخ) .
ثالثاً: أن كلمة الديوان جاءت من كلمة ديوانه وهي كلمة فارسية تعني المجانين وقد أطلقها كسرى على الموظفين الذين وجدهم مشغولين بالحسابات. وتذكر الكتب أن الوليد بن هشام بن المغيرة قد ذكر لعمر أن الروم يستعملون الدواوين.
رابعاً: انهارت أمبراطورية فارس وهناك كوادر من الذين عملوا في الدواوين أصبحوا عاطلين عن العمل بينما ما زالت امبراطورية بيزنطة تتقهقر ويمكن لكوادرها أن تغادر المناطق التي دخلها العرب الى المناطق التي ما زالت تحت سيطرة الجيش الرومي في تركيا.
وتذكر كتب التاريخ أن عدداً من الفرس كان موجوداً في المدينة عند اغتيال الخليفة عمر. وليس من سبب لوجود الفرس في العاصمة العربية سوى للعمل فيها ولم يكن هناك عمل سوى الدواوين. ولكن كان شرط الخليفة أن لا يدخل المدينة سوى المسلمين فقط وهذا يعني أنهم أشهروا إسلامهم.
خامساً: ضمن الكوادر التي وصلت المدينة رجل يدعى الهرمزان ، قالت الكتب في وصفه إنه كان ملك الأهواز ويمت بصلة القرابة لكسرى وهو أحد أعمدة البيوت السبعة للعائلة المالكة. ولا يتسع المجال لرواية قصة إسلامه ولكن كان أول انطباع له عندما رأى الخليفة عمر نائماً في المسجد النبوي أنه ينبغي أن يكون نبياً. وكثير من المؤرخين يعترف بأنه قد أسلم وحسن إسلامه.
سادساً: نصح الهرمزان عمر قائلاً: :كيف تعرف أن فلاناً أخذ دراهمه هذا العام ؟ وكيف تعرف أنه لم يأخذها مرتين؟ وفي كتاب آخر يذكر المؤرخ أنه كان في المدينة بعض مرازبة الفرس ( جمع مرزبان وهو يلي ملك الفرس في المرتبة) ويستطرد فلما رأى المرزبان حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين إن للأكاسرة شيئاً يسمونه ديواناً جميع دخلهم وخرجهم مضبوط فيه لا يشذ منه شيء ، وأهل العطاء مرتبون فيه مراتب لا يتطرق اليها الفتنة. ولم تعرف المدينة سوى مرزبان واحد دخل اليها وهو الهرمزان.
سابعاً: أن عمر قد رصد راتباً شهرياً للهرمزان قالت الكتب إنه ألفا درهم، والمعروف عن عمر أنه فرض لنفسه ستين درهماً ولهذا فالمبلغ المذكور يعتبر ضخماً قياساً ، وكما هو معروف فإن عمر لم يفرق بين ملك وبدوي فقير ، فإن هذا المبلغ لم يكن لسواد عيون الهرمزان وإنما للصرف على الدواواين التي تحتاج ورقاً وأحباراً وهي من المواد الثمينة تلك الأيام ويتم إحضارها من مصر أو الصين فقط، وربما لتغطية رواتب الموظفين في الدواوين المختلفة ( الجند، الزكاة، الخراج، البريد الصادر والوارد، الخ). ويحتاج الأمر الى معرفة تكلفة هذه البنود في تلك الأيام ، ولكن هذا بحث آخر.
ثامناً: لم تذكر الكتب سوى أسماء ثلاثة موظفين في الدواوين وهم من العرب على النحو التالي :
عقيل بن أبي طالب.
مخرمة بن نوفل.
جبير بن مطعم بن عدي.
كانت الصفة الجامعة لهؤلاء الثلاثة أنهم خبراء في الأنساب في الجزيرة العربية. مما يعني أنه قد تم إحصاء وتسجيل سكان الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ. ويعني أيضاً جداول الزكاة والعطاء.
وقد ذكرت الكتب أن عقيل بن طالب كان يحتفظ بطنفسة ( سجادة صغيرة) يطرحها لنفسه ويصلي عليها في المسجد النبوي وهو أول من فعل ذلك. كما ورد أن جبير بن مطعم هو أول من لبس طيلساناً ( شال أو وشاح) في المدينة. ويبدو تأثير حضارة فارس على الاثنين ، فالهرمزان أو الفرس العاملين في الدواوين قد قدموا لهما هذه الهدايا البسيطة) .
وبتجميع النقاط السابقة كما تجمع الصورة الممزقة، يتضح أن المسلمين الفرس قدموا خدمات جليلة للدولة الإسلامية وساهموا مساهمة فعالة وأساسية في بنائها وكان الهرمزان لعمر بمثابة سلمان الفارسي للرسول الذي وصفه قائلاً ( سلمان منا أهل البيت). ومن الجدير ذكره أن الخليفة عمر بنفسه قام على رأس وفد كبير من الصحابة باستقبال سلمان على باب المدينة عند قدومه اليها. فأحد صفات عمر الأساسية التواضع الجم ورأس الدولة لا يمنعه مركزه من استقبال فرد مميز فيها ولا يقتصر الأمر على رؤساء الدول فقط كما يحدث الآن.
سلمان أنقذ الإسلام بالفكرة التي أقترحها بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ولم يكن هذا عن خبرة عسكرية كما قالت كتب التاريخ بل لأنه نشأ في بيئة زراعية تمارس حفر الترع لسقي النباتات. وقد وصف أبو سفيان هذا العمل بأن الأعراب لم تكن لتأتي بمثله. وهكذا الدواوين فالأعراب لم يكونوا قادرين عليها في البداية وقام بتنفيذها الهرمزان واستعان على ذلك بكتبة الدواوين السابقين في أمبراطورية الساسان.
كانت الدولة الإسلامية في خلافة عمر خلية نحل تعمل بكل طاقتها وكان الخليفة يطبق قانون السماء على الأرض أن لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى بدون منة على أحد ، وبذل المسلمون الفرس طاقتهم كلها لخدمة الدولة الجديدة وليس هناك أسطع مثلاً من نصيحة الهرمزان لعمر بتوجيه الجيش الإسلامي الى الأهداف الصحيحة داخل الأمبراطورية مما يعني أنه كان يعمل مستشاراً عسكرياً للدولة . وكانت آخر كلماته عند مقتله هو الشهادتين. أما قاتله عبيدالله بن عمر فقد هرب الى معسكر معاوية بن أبي سفيان خوفاً من قصاص علي بن أبي طالب.
أولى بأحفاد المسلمين الفرس الأوائل أن يعيدوا حساباتهم ونظرتهم الى عمر أسوة بأجدادهم ، وأن يستمعوا الى نصيحة هاشمي رفسنجاني التي تدل على قراءته الصحيحة للتاريخ.
عمر بن الخطاب والفرس – بقلم زهير كمال