محمود عباس يُصرّ عنزة ولو طارت- منير شفيق
الخلل الجوهري في استرتيجية الرئيس محمود عباس وسياساته له بعدان أساسيان: الأول اعتباره مواجهة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس هي في الميدان الخارجي: هيئة الأمم والمنظمات والمواثيق الدولية وليس في الميدان الداخلي حيث الاحتلال والاستيطان: أرض الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
أما الثاني فإسقاطه أي دور للمقاومة والانتفاضة كاستراتيجية وتكتيك يمكنهُ أن يفرض على الاحتلال التراجع والانسحاب. وتفكيك الاستيطان وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيدٍ أو شرط.
هذا دون الإشارة إلى الخلل المبدئي الأول الذي يتمثل في تخليه عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ومن ثم اعتبار قضية فلسطين وثوابتها محصورَيْن في الأراضي المحتلة في حزيران 1967. أي في الضفة الغربية والقدس الشرقية مما جعله يلعب الدور الأساسي في تعديل ميثاق م.ت.ف, والمبادرة إلى الإعتراف بدولة إسرائيل. ومن ثم التخلي عن مبدأ “حق العودة” والاستعاضة عنه بشعار “إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين”. ويُقصَد بالعادل هنا: التعويض، وتوطين البعض، ونقل البعض إلى أراضي الدولة الفلسطينية، فضلاً عن تأمين هجرة البعض الآخر وتوزيعهم بين دول ستشارك في حل مشكلتهم. وإذا كان ياسر عرفات قد تورّط في اتفاق أوسلو إلاّ أنه عاد بعد مفاوضات كمب ديفيد، ليتكلم بلغة المقاومة والانتفاضة ويسقط شهيداً.
إن البُعدين الأساسيين المتعلقين بموضوع الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية ترجما بداية من خلال سياسات التفاوض المباشر برعاية أمريكا، كما من خلال الاتفاق الأمني الذي تنفذه أجهزة أمنية بناها الجنرال الأمريكي كيث دايتون. وقد قامت بملاحقة خلايا المقاومة من كل الفصائل بما فيها خلايا كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح. ثم توسعت نشاطات الأجهزة الأمنية لمطاردة الحراكات الشبابية الموجهة ضد الاحتلال والاستيطان، وقمع أية مبادرة باتجاه الانتفاضة أو التظاهر نصرة لانتفاضة القدس أو دعماً للمقاومة والشعب في قطاع غزة في الحروب ضد العدوان.
فمحمود عباس على أرض الضفة الغربية يُنسّق أمنياً مع الاحتلال والاستيطان ويقمع خلايا المقاومة المسلحة وأية محاولة باتجاه الانتفاضة. وأما على مستوى التوصل إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية فقد اعتمد على التفاوض المباشر وتحت الرعاية الأمريكية. ولكن عندما فشل التفاوض بالرغم مما قَدَّمَ له من تنازلات، ودخلت استراتيجيته في نفق مسدود، أو في الأدق فشلت وثبت فشلها، هرب إلى الأمام في الاتجاه نفسه. وراح يهدّد باللجوء إلى الهيئات الدولية لنيل اعتراف بالدولة الفلسطينية على الضفة والقدس الشرقية وقطاع غزة.
عارضت أمريكا سياسات محمود عباس المتعلقة بالتوجه إلى الجمعية العامة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية. واعتبرتها سيئة ومعوّقة لعملية التسوية والتوصل لحل الدولتين مثلها مثل التوسع في الاستيطان والإجراءات الصهيونية في القدس والمسجد الأقصى.
ولكن بعد مماطلة طالت لم يجد محمود عباس إلاّ التقدّم بمشروع لمجلس الأمن لإقامة دولة فلسطينية بحيث ينسحب الاحتلال خلال سنتين. ثم عدّل بالتعاون مع المندوب الفرنسي. مما أفرغه حتى من الحد الأدنى الذي كانت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قد اقرّته. ومع ذلك فشل حتى في الحصول على الأصوات التسعة الضرورية لإقراره بالرغم من تصويت فرنسا ولوكسمبورغ في مصلحته. وكان من بين التنازلات الجديدة التي تضمنها بند التفاوض على أن تكون القدس عاصمة للدولتين بدلاً من هدفه “القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية”.
وبهذا لم يبق أمام محمود عباس إلاّ أن يُعوّض بالتوقيع على الانتساب لعضوية محكمة الجنايات الدولية وعشرين منظمة وميثاق دولييْن، ظناً منه، أو توّهماً، أن هذه الخطوات ستؤثر شيئاً في تحقيق أهداف استراتيجيته وسياسته. فهو لم يزل في ملعب نقل المواجهة مع الاحتلال والاستيطان إلى الهيئات الدولية بدلاً من المواجهة على الأرض حيث الشعب الفلسطيني والاحتلال والاستيطان. أي حيث يمكن أن يُهزَم الاحتلال وتفكك المستوطنات. وذلك إذا ما ترجمت المواجهة إلى مقاومة وانتفاضة شاملة في ظل وحدة فلسطينية مدعومة عربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً. “فالرطل لا يزنه إلاّ الرطلان” كما يقول المثل الفلسطيني.
والسؤال لندع جانباً التحليل القائل أن كل ما يفعله محمود عباس بعد فشل التفاوض المباشر بالرعاية الأمريكية أي فشل استراتيجيته الأساسية هو الهروب إلى أمام وبالاتجاه الفاشل نفسه. وهو إن فعل شيئاً فهو دخول في معارك جانبية خارجية بعيداً من الميدان الحقيقي للصراع والمواجهة، وبما لا يؤثر مطلقاً في ما يجري على الأرض من احتلال واستيطان وتهويد للقدس واعتداء على المسجد الأقصى واستمرار اعتقال الأسرى. وإن كان مؤثراً من ناحية إزعاج نتنياهو وزيادة عزلته.
لقد ذهب محمود عباس إلى الجمعية العامة بمشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب ثم ذهب إلى مجلس الأمن بمشروع يحدّد سنتين أو ثلاث سنوات لانسحاب الاحتلال. وها هوذا يتجه إلى محكمة الجنايات الدولية وعشرين منظمة وميثاق دوليين. وفي المرتين الأوليين عارضت أمريكا ومارست عليه ضغوطاً ليؤجل ويمدّد. وهي الآن تهدّد باستخدام سلاح المعونة المالية. كما كان ردّ فعل نتنياهو إزاء المشروعين الأوليين الغضب والتهديد إلى جانب الاستمرار في الاستيطان وهو مطمئن إلى استمرار التعاون الأمني وهذا هو الأهم بالنسبة إليه.
ومن هنا راح محمود عباس منذ أن فشلت استراتيجية التفاوض يدور في حلقة مفرغة ما دام قد جعل ميدان المواجهة في الخارج وليس في الداخل. وليس له من مفر بعد أن دخل في “معركة” المحكمة الجنائية الدولية، خصوصاً. إلاّ الوصول إلى نقطة النهاية. وذلك حين يصبح أمامه بعد إقرار الانضمام لعضوية المحكمة (إذا حصل) أن يتقدّم بقضايا على قادة وعسكريين إسرائيليين وهو ما لا يستطيع الإقدام عليه إلاّ بعد أن يغادر الضفة الغربية نهائياً لأنه يكون قد دخل في “كسر العظم”.
الأمر الذي سيفرض وقف التنسيق الأمني ودخول مواجهة ميدانية في الداخل وهو ما يتعارض مع موضوعاته الفكرية واستراتيجيته وسياساته لينتقل إلى النقيض تماماً وهذا لا قِبَل له عليه. فمع عناده وإصراره على خطه الفاشل كما فعل حتى الآن لا يستطيع أن يصبح رجلاً آخر وقائداً آخر. فالاستقالة هي الطريق الأسهل عليه. ولكن ثبت حتى الآن أنه غير قادر عليها أو خائف منها. وقد راح يماطل ويتعلق بحبال الهواء ولكن الوصول لمحكمة الجنايات يُنهي اللعبة إذ تصبح جداً أو مهزلة فاضحة.
يبدو أن محللي شخصية محمود عباس من خبراء وسياسيين في أمريكا والكيان الصهيوني مقتنعون بأنه لا يستطيع الانتقال إلى ميدان المقاومة والانتفاضة، ويخاف من الاستقالة وترك الميدان للشعب والحراكات الشبابية والفصائل المسلحة في غزة، وإلاّ لكانوا حسبوا ألف حساب خشيةً من تلك اللحظة. فمشكلة محمود عباس حتى الآن هي في لا صدقية تهديداته. لأن الصدقية ستعيد الأمور إلى نصابها، وستنقل المعركة إلى ميدانها الحقيقي. ولكن ما ينبغي لأحد أن يتأكد مما قد يفعله القائد الفلسطيني حين يوضع في زاوية خانقة إلى الحدود القصوى. وذلك قياساً على ياسر عرفات وأحمد الشقيري والحاج أمين الحسيني. علماً أن محمود عباس أثبت حتى الآن أنه يدخل في الشذوذ عن القاعدة (حتى الآن في الأقل). فالاستقالة وجبت مرات ومرات والتخلي عن السياسات الفاشلة وجبت مرات ومرات. ومع ذلك ما زال شعار “عنزة ولو طارت”.