القنيطرة وقومية المقاومة – عبد اللطيف مهنا
في توقُّفنا أمام الجريمة العدوانية الأخيرة التي ارتكبها العدو الصهيوني في ريف القنيطرة على مشارف الجبهة معه في الجولان السوري المحتل، علينا التسليم أولاً، وبغض النظر عن زمانها ومكانها وهدفها وخسائرنا الموجعة فيها، بواحدة من بديهيات الصراع في بلادنا تقول بأن مجرد الوجود الصهيوني بحد ذاته، متمثلاً في كيانه الجاثم في القلب من الوطن العربي، هو جريمة استعمارية مستكرة وكاملة الأوصاف في فلسطين، وثكنة عدوان دائم ومستمر على محيطها العربي، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يقتص التاريخ وتنتقم الجغرافيا فيصدران حكمهما المبرم والمحتم والذي لن يكون إلا زوال وجوده الطارىء المفتعل، وهذا ما يتنبأ به كثرة من استراتيجييهم انفسهم وتعقد من اجل محاولة تفاديه مؤتمراتهم الدورية وتُنشأ تحسباً له عديد مراكزهم البحثية.
بعد التسليم بما سبق والانطلاق منه، علينا النظر الى ما حدث، من حيث المؤشر والتداعيات، أو ما يعنيه من احتمالات لبداية تحوِّل جيوسياسي، وليس النظر له كمجرد واحدة أخرى من تلك الجرائم العدوانية التي تكررت ضد سورية ابان انشغالها بمحنتها في مواجهة عدوان تدميري شامل ومتعدد الأوجه والأطراف على مدار السنوات الأربع الأخيرة، أو كمثل تلك التي كم تكرر منها سابقا في لبنان، أو هذه المستمرة طوال الوقت في فلسطين. كما يجب ألا يحتسب ما حدث فقط وفق عدد واهمية ومكانة من سقط فيه من الشهداء الأبرار، وهو على أي حال ما لايمكن تجاهله ولا التقليل من فداحته…ولا حتى الانشغال اكثر مما يجب بما يبدو الآن أن العالم كله منشغل به، وهو مدى سرعة أو تأني، أو زمان ومكان، أو حجم وتداعيات، رد حزب الله الذي هو في حكم المفروغ منه، إذ يستذكر هذا العالم في دوامة انشغاله بتفسير سياسة صمت الحزب التي تلت العملية، رده الحازم في عملية مزارع شبعا على جريمة شهيده في عدلون، فكيف إذن وهو ازاء عدوان هو بحجم جريمة ريف القنيطرة…لماذا؟
لأنه هناك ما هو المختلف الآن، إذ علينا التأمل ملياً لاستقراء ما خطَّته قطرات الدماء اللبنانية والإيرانية الزكية التي سالت في جبهة الجولان السوري المحتل من كلمات لها وقعها ومعناها المختلف، والتي لاتخطئها عين متبصرة، لاسيما وإنها سطَّرته على ما يبدو في صدر صفحة جديدة في مستمر الصراع ومؤكدةً من جديد على بعض من حقائقه، أو هى تعيد الآن الاعتبار اليها…حقائقه التي فشلت كل المحاولات لطمسها أو الزوغان عن استحقاقاتها، وأولاها، أن كافة قضايا الأمة العربية كبرت أم صغرت هي موصولة العرى فلاتتجزأ، وإن جبهتها في مواجهة جبهة أعدائها، خارجاً وداخلاً، ومهما اختلفت ازمنتها وامكنتها وظروفها ومسمياتها، هى واحدة. كما أن مقاوماتها في مواجهة المعتدين على اختلاف تموضعاتها على الخريطة العربية وبعض من خصوصياتها هى واحدة ايضاً…ردود الفعل الفلسطينية المقاومة والشعبية داخلاً وشتاتاً على هذه الجريمة، مثلاً، تكفي وحدها للإشارة الى هذا…
وإذ يثبت ما تمت الإشارة اليه آنفاً، أو بالأحرى يعيد الاعتبار الى قومية معارك الأمة مع اعدائها، والتي، شاء من شاء وأبى من أبى، ستظل فلسطين قضيتها المركزية وبوصلة نضالها ومؤشر نهوضها من عدمه، فإن دماء الشهيد الجنرال محمد على الله دادي، تذكِّرنا، في مثل هذه المرحلة المدلهمة الحلكة بما تتلقاه من ضخ تطييفي جهنمي يستهدف وعى انسان مجتمعاتنا المبتلاة بما يحيكونه لها راهناً من فتن تفتيتية مدمرة، أن ايران، التى اسهم اندلاع ثورتها الإسلامية في الحؤول دون تعميم كامب ديفيد، وظلت جمهوريتها الإسلامية على امتداد ما يزيد على الثلاثة عقود الأخيرة خير نصير للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، والواقفة الآن، وكانت سابقاً، وبكل ما تملك الى جانب سورية، هى، ومن هذه الزاوية بالذات، ليست فقط من تعد في موقع الإحتياطي النضالي الكبير الذي يرفد نضال أمتنا ويؤازره، بل الطرف المشارك بدمه والوازن بثقله وبإمكانياته في هذا النضال، والذي هو نضال ضد عدو مشترك للطرفين وبكل ماتعنيه الكلمة…دماء شهداء مزرعة الأمل في ريف القنيطرة لم تُعمِّد أو تؤشر فحسب على بداية لصفحة جديدة من هذه المشاركة المباشرة، وإنما فيها ما يؤكد، وهذه المرة بزكي الدم، بأننا امام تباشير لنقلة نوعية قادمة في اداء محور المقاومة…هذه التي بدأت خطوط جبهتها المباشرة والواحدة تمتد عملياً من الناقورة الى القنيطرة ومنهما الى غزة…
…لأن الصهاينة كانوا، الى جانب عدوانية متأصلة وحسابات انتخابية حصاد الأصوات في بيادرها ضمانته الوحيدة هى المزيد مما يسفكونه من دماء العرب، يؤمنون اكثر من كثير العرب بقومية مقاومة العرب، ووحدانية معركة العرب، وفي سياق صراع تناحري يؤمنون، وأيضاً أكثر من كثير العرب، بأنه صراع وجود لا حدود، ويتحسبون ولايكتمون تحسُّبهم المفرط لخطورة عامل الرفد الإيراني للمواجهة العربية في ساحاته…بلغة أخرى، لأنهم أحسَّوا بإرهاصات ما هو القادم في جبهة الجولان السوري المحتل، آخذين في اعتبارهم ما كانوا قد تلقنوه وحفظوه جيداً من دروسهم غير قليلة الكلفة في لبنان وغزة، كانت جريمتهم الاستباقية برسائلها التي ارادوها تحذيرية، وبالتالي وقعوا فيما باتوا يعيشونه الآن على إثرها، وفي انتظار الإجابات التي يترقبونها، من قلق لايكتمونه… قلق هاهو مع الوقت يتحوَّل إلى ذعر يدب في اطناب مستعمريهم، ولا تخفف منه لا استعداداتهم ولا تحوطاتهم ولاقبابهم الحديدية…